نشر قبل 7 سنوات
مجموع الأصوات: 73
القراءات: 10133

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نهج البلاغة . . فوق الشبهات

نص الشبهة: 

ذكرَ أحد الباحثين في كتابِهِ الذي يُدرَّس في الجامعات تلخيصاً لأهم ما لاحَظَهُ القدامى والمحدثون على نهج البلاغة من إشكالات للتشكيك بصحة نسبته للإمام علي [عليه السلام] أو على الأقل بصحة نسبة أكثره له وهي :

  1. خلوه من الأسانيد التوثيقية التي تعزز نسبة الكلام إلى صاحبه متناً وروايةً وسنداً .
  2. كثرة الخطب وطولها كخطبتي الأشباح والقاصعة ، لإن هذه الكثرة وهذا التطويل مما يتعذّر حفظه وضبطه قبل عصر التدوين؟ مع إن خطب الرسول [صلى الله عليه وآله] لم تصل إلينا سالمةً وكاملةً مع ما أتيح لها من العناية الشديدة والاهتمام الزائد .
  3. رصد العديد من الأقوال والخطب في مصادر وثيقة منسوبة لغير علي [عليه السلام] وصاحب النهج يثبتها له .
  4. اشتمال هذا الكتاب على أقوال تتناول الخلفاء الراشدين قبلَهُ بما لا يليق به ولا بهم ، وتنافي ما عرف عنه من توقيره لهم . ومن أمثلة ذلك ما جاء بخطبته المعروفة بالشقشقية التي يظهر فيها حرصه الشديد على الخلافة ، رغم ما اشتهر عنه من التقشف والزهد .
  5. الإنباء بالغيب فقد تنبأ بأمر الحجاج وفتنة الزنج وغارات التتار ، مع إن رسول الله [صلى الله عليه وآله] لم يكن يعلمه وقال تعالى في محكم كتابه مخاطباً رسوله الكريم : ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .
  6. شيوع السجع فيه إذ رأى عدد من الأدباء إن هذه الكثرة لا تتفق مع البعد عن التكلف الذي عرف فيه عصر الإمام علي [عليه السلام] مع إن السجع العفوي الجميل لم يكن بعيداً عن روحيِة مبناه .
  7. الكلام المنمق الذي تظهر فيه الصناعة الأدبية التي هي وشي العصر العباسي وزخرُفه كما نجد في وصف الطاووس والخفاش والنحل والنمل والزرع والسحاب وأمثالها .
  8. الصيغ الفلسفية والمقالات الكلامية التي وردت في ثناياه والتي لم تعرف عند المسلمين إلا في القرن الثالث الهجري وحين ترجمت الكتب اليونانية والفارسية والهندية وهي أشبه ما تكون بكلام المناطقة والمتكلمين منه بكلام الصحابة الراشدين (نقلا عن كتاب الأدب الإسلامي في عهد النبوة وخلافة الراشدين ، للدكتور نايف معروف ، الطبعة الثانية 1998م ، دار النفائس بيروت .) .

السؤال : نظراً لأهمية الموضوع بالنسبة لمذهبنا الشريف ونظراً لعدم وجود كتاب مستقل يتولى الردّ على هذه الإشكالات التي تدرَّس كل عام دراسي في الجامعات ولذا نرجو من سماحتكم الاهتمام بالردّ ونشره لما يترتب على ذلك من فائدة عامة وبالخصوص بالنسبة للجامعيين الذين تزرع في أذهانهم هكذا إشكالات لأنكم أخذتم على عاتقكم الدفاع عن كل ما يثار من إشكالات وشبهات حول مذهب أهل البيت وكل ما يتعلق بهم [عليهم السلام] ولم نجد من يهتم بالموضوع غيركم . ولكم الأجر والثواب .

الجواب: 

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . .
وبعد . .
فإننا إذ نحيي فيكم هذا الحماس للدفاع عن الحق وعن الدين ، الذي تجلى في طلبكم منا كتابة رد على التشكيكات التي تثار في كتاب يدرّس في الجامعات حول حقيقة نهج البلاغة ، وصحة ما فيه . . ونحن نأسف كثيراً لإعلامكم بأن هؤلاء القوم ليسوا طلاب حقيقة ، وإنما هم فيما يبدو يسيرون باتجاه مرسوم لهم ، وينفذون سياسة حقودة ومغرضة ، وهادفة إلى تضييع الحق ، وفرض الباطل بقوة التزوير والبهرجة الإعلامية ، عن سابق علم ومعرفة ، وتصميم وإصرار . .
وإلا ، فما هو الداعي للاحتفاظ بهذه الشبهات والاهتمام بتدريسها في الجامعات بعد أن أثبت علماؤنا في دراسات علمية كثيرة ومتنوعة أثبتوا بوارها وفسادها . . ولم يبقوا أي عذر لمعتذر ، ولا حيلة لمتطلب حيلة؟!
ولماذا لا نجدهم مهتمين بإبراز الإشكالات الحقيقية ، والتي لا مجال لهم لدفعها ، فيما يختص بالإنجيل المتداول مثلاً ، أو بصحيح البخاري أو بغيرهما مما هو معتمد ومقدس لدى أديان ومذاهب أخرى بصورة أعمق وأشد ، من التقديس والاهتمام بنهج البلاغة عند الشيعة . .
وعلى كل حال ، فإن ما يذكرونه من إشكالات زعموا أنها ترد على نهج البلاغة ، وتثير الشك في اعتباره ، ما هو إلا محض خيالات وأوهام ، أو ﴿ ... كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ 1 .
وإليك بعض اللمحات التي تفيد إن شاء الله في دفع شبهاتهم ، وإبطال كيدهم ورده إلى نحورهم ، مع الإشارة إلى أنه لا غنى للباحث عن مراجعة بحوث علمائنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم ، فنقول ، مراعين لترتيب النقاط الواردة في السؤال :

1 ـ فيما يرتبط بخلو نهج البلاغة من الأسانيد التوثيقية ، نسجل ما يلي :
أولاً : قد عرف الخاص والعام : أن الشريف الرضي [رحمه الله] ، عالم جليل تقي أبي ، لم يزل موضع احترام وإجلال وإكبار وتعظيم ، ولم يكن إلا ذلك الرجل الصادق الأمين ، المؤتمن ، وهو أجلّ من أن يتهم بباطل ، أو أن تجد فيه غميزة في دين ، أو اتهام بباطل ، أو طعناً في أمانة . .
ثانياً : إن هناك العديد من التآليف في مصادر ما أورده [رحمه الله] في نهج البلاغة من خطب ورسائل . . ووصايا وكلمات قصار . .
ويكفي أن نذكر منها كتاب مصادر نهج البلاغة في مجلداته الأربعة ، تأليف العلامة السيد عبد الزهراء الخطيب [رحمه الله] . .
وقد وثق فيه متون نهج البلاغة . . فشكر الله سعي مؤلفه ، وجزاه على هذا العمل خير جزاء وأوفاه . .

2 ـ وحول طول بعض الخطب في نهج البلاغة ، وكون ذلك مما يتعسر ضبطه وحفظه نقول :
أولاً : إن هذه الخطب ليست بأطول من سورة البقرة وآل عمران ، والنساء والأعراف ، وسواها من السور القرآنية التي لا يجهلها أحد . . فهل تعذر حفظ تلك السور ، وعسر ضبطها ، وهي التي نزلت قبل عصر التدوين .
ثانياً : إن خطب أمير المؤمنين [عليه السلام] ، قد كانت تكتب في عهده وقد ذكر لنا التاريخ أسماء بعض هؤلاء الذين كتبوها ، ومنهم :
زيد بن وهب الجهني ، الذي جمع كتاباً من خطبه [عليه السلام] 2 .
والحارث الأعور الهمداني ، فإنه دوّن بعض خطبه ساعة ألقاها 3 .
وكذلك الأصبغ بن نباتة ، وربما غير هؤلاء أيضاً . .

3 ـ وحول أن هناك أقوالاً وخطباً في نهج البلاغة قد نسبت في مصادر أخرى إلى غير علي [عليه السلام] ، نقول :
أولاً : إن الوثاقة المدعاة لغير الرضي ليست بأولى من وثاقة الرضي الثابتة لدى الخاص والعام ، فلماذا لا يجعل إيراد الرضي لها سبباً في التشكيك في صحة ما ذكره أولئك . .
ثانياً : إن الكتب التي جمعت مصادر لمتون كتاب نهج البلاغة قد بينت أن هذه النصوص قد ذكرها مؤلفون أثبات ، ورواة ثقات قبل الشريف الرضي على أنها من كلام أمير المؤمنين [عليه السلام] .
ثالثاً : إن كثيرين من خطباء المسلمين وأعيانهم قد اكتسبوا قوتهم الخطابية والبلاغية بسبب ما حفظوه من خطب علي [عليه السلام] ، وغرر كلامه [صلوات الله وسلامه عليه] . .
وكان محمد بن عبد الملك المعروف بالزاهد القارفي ، قد نال الحظوة بإقبال الناس على مواعظه ، وانثيالهم على مجلسه ، وتدوينهم لكلامه . . لأنه كان يحفظ نهج البلاغة ، ويغير بعض عباراته ، فيحسبون أنها من إنشائه ومبتكراته 4 .
ويقول محمد كرد علي إن ابن المقفع تخرج بخطبه [عليه السلام] 5 .
وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة ، حفظت مئة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب 6 .
وقال معاوية عن علي [عليه السلام] : وهل سن الفصاحة لقريش غيره 7 .
وقال اليعقوبي : حفظ الناس عنه الخطب ، فإنه خطب بأربع مئة خطبة ، حفظت عنه . وهي التي تدور بين الناس ، ويستعملونها في خطبهم 8 .
وبعدما تقدم نقول :
إن ذلك يوضح : أن أعاظم الخطباء كانوا متأثرين بأمير المؤمنين [عليه السلام] ، حافظين لخطبه ، يوردون من كلامه ما راق لهم . ويقتبسون منه ما يناسب أغراضهم . ولم يكونوا يفصحون عن ذلك ، إما رغبة في اكتساب الشهرة أو تقية وخوفاً ، أو لغير ذلك .
فما ورد في كلمات بعض هؤلاء وغيرهم إنما يعود إليه ، ومن الاشتباه والغلط نسبته لغيره [صلوات الله وسلامه عليه] . .
رابعاً : قد ذكر أحد علماء الأباضية : أن الأباضية كانوا في الدولة الرستمية خطبهم على منابرهم هي خطب علي [عليه السلام] 9 .
فمن الطبيعي إذن أن تنسب بعض الكلمات التي له [عليه السلام] ، لبعض هؤلاء وأولئك ، ما دام أن الكثيرين لا يعرفون الحقيقة ، ويأخذون الأمور على ظاهرها . .
خامساً : إن هذه الموارد المدعاة نادرة جداً ، لا تستحق الالتفات إليها ، حتى لو فرض وفرض المحال ليس محالاً ثبوت كونها لغيره [عليه السلام] ، فكيف والأمر على خلاف ذلك تماماً حسبما أوضحناه؟!!

4 ـ وأما بالنسبة لقولهم : إن في نهج البلاغة كلاماً تناول فيه الخلفاء قبله ، وهو ينافي ما عرف عنه من توقيره لهم كما هو الحال في الخطبة الشقشقية التي تظهر حرصه الشديد على الخلافة ، رغم ما اشتهر عنه من تقشفه وزهده ، فنقول فيه ما يلي :
أولاً : إن الطعن الموجود في نهج البلاغة إنما هو شكوى مظلوم ، وإعلان وبيان لحق مغتصب ، ووصف واقعي للحال التي كانوا عليها ، ونقد بناء ، لم يخرج في ذلك عن دائرة الصدق والصواب .
ثانياً : إن ما أتاه إليه الخلفاء لهو من أعظم الفوادح والرزايا ، ويكفي أن نشير إلى ما فعلوه من اقتحام داره ، وهتك حرمة بضعة رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، وضربها وإسقاط جنينها ، ثم اغتصاب فدك . . وإرغامه على البيعة لهم ، واغتصاب الأمر منه . .
وإن أية واحدة من هذه العظائم وسواها لتهون أمامها كل الكلمات مهما كانت صريحة وقاسية . .
ثالثاً : إن ما صدر عن الخلفاء أنفسهم بحق الصحابة . . وما صدر من الصحابة بحق بعضهم ، لا يمكن أن يقاس به ما صدر عن أمير المؤمنين [عليه السلام] ، من تظلم وشكوى ، ووصف لحالهم في أنفسهم ، مع أنهم قد كان يلعن بعضهم بعضاً ، ويقاتل ويقتل بعضهم بعضاً . ومنهم من كان يشرب الخمر .
رابعاً : إن رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، قد أعلن أن أكثر أصحابه سوف يؤخذ بهم ذات الشمال في يوم القيامة [أي إلى النار] حتى لا يبقى منهم إلا مثل همل النعم ، فأقول : أصحابي ، أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أعقابهم القهقرى .
زاد في البخاري وغيره :
فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي ، وقد ذكرنا شطراً كبيراً من هذه الروايات في كتابنا « دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام » . . في مقال بعنوان : « عدالة الصحابة في الكتاب والسنة . . » فراجع . .
وقد تحدث القرآن عن أفاعيل كثيرين من الصحابة : كالذين تخلفوا عن تبوك ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، ومنهم المعوقون ، والذين ابتغوا الفتنة ، ومنهم من يلمز النبي في الصدقات ، ومنهم الذين كانوا يؤذون النبي [صلى الله عليه وآله] ، ويقولون هو أذن ، ومنهم من كان في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً . . وقد رجع ابن أبيّ في حرب أحد بثلث الجيش ، وقد أركسهم الله بما كسبوا أي ردهم إلى الكفر . .
خامساً : إن علياً [عليه السلام] ، قد وصف الأتقياء من أصحاب محمد [صلى الله عليه وآله] ، أبلغ الوصف وأحسنه . .
وهو [عليه السلام] إنما يمدح الذين لم يحدثوا حدثاً ، ولم يؤووا محدثاً ، ولم يمنعوا حقاً ، قال [عليه السلام] : فإن رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، أوصانا بهم ، ولعن المحدث منهم ، ومن غيرهم 10 .
سادساً : إذا كان ما يقوله [عليه السلام] حقاً ، فلماذا لا يليق به؟! . . بل هو أولى الناس بقول الحق ، وتعريف الأمة به . . ولماذا لا يليق بهم؟! فإن من يفعل أمراً ويراه مما يليق فعله له ، فلماذا لا يليق مطالبته به ، وتعريف الأمة بصدوره منه؟!
ولو كانوا يرون : أن ذلك لا يليق بهم ، فلماذا فعلوه ، وأصروا عليه؟! . . ثم عادوا هذا ، وتحالفوا مع ذاك من أجله ، وفي سبيله؟!
سابعاً : إن معرفة كون أمر لائقاً أو غير لائق ، إنما تؤخذ من علي [عليه السلام] ، لأنه هو الذي قال فيه رسول الله [صلى الله عليه وآله] : « علي مع الحق والحق مع علي ، يدور معه كيفما دار » .
وقال : « علي مع القرآن ، والقرآن مع علي » .
وهذا معناه : أن علينا : أن نرصد علياً [عليه السلام] ، فما يفعله ، يكون هو اللائق ، وما يرفضه يكون غير لائق ، وليس لنا أن نضع معايير وضوابط من عند أنفسنا . .
ثامناً : أما الحديث عن توقيره لهم . . فإنما يوقر علي [عليه السلام] من التزم الحق ما دام ملتزماً به ، فإذا حاد عنه واجهه بالموقف الصارم ، وبالقرار الحازم ، من منطلق قاعدته الحقة التي أطلقها : « الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له ، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه » 11 .
وإن مسايرتهم حفاظاً على الإسلام شيء والتوقير لهم شيء آخر ، وقد صرح [عليه السلام] بالأمر الأول ، أي بمسايرته لهم لحفظ الإسلام في مناسبات كثيرة ، وفي نهج البلاغة موارد من ذلك أيضاً .
أما التوقير ، فإنما يدّعيه عليه محبو غاصبي حقه ، ولم يثبت عنه شيء من ذلك .
وإن افتئات الناس على أمير المؤمنين [عليه السلام] ، ونسبة أمور لا حقيقة لها إليه ، مما يدخل في دائرة الكيد الإعلامي ، وتوهين أمره وتضعيفه ، من جهة ، والذب عن خصومه والسعي إلى تقويتهم من جهة أخرى ، لهو من الأمور التي يستطيع كل باحث أن يتلمّسها ، ويجد الكثير من الشواهد لها .
تاسعاً : أما الحديث عن الخطبة الشقشقية ، فهو بيت القصيد لهؤلاء . وهذه الخطبة هي أهم ما يدعو هؤلاء لإثارة الشبهات مهما كانت موهونة حول نهج البلاغة . . مع أن أدنى مراجعة للحقائق التاريخية ، وللحديث المروي بطرق غير الشيعة ، لا تبقي مجالاً لأية شبهة في صحة مضامين هذه الخطبة الشريفة ، وأن ما ورد فيها لا يعبر إلا عن جزء يسير من الواقع والحقيقة .
ولو كان لا بد من حذف هذه الخطبة من نهج البلاغة ، أو التشكيك بمضامينها انطلاقاً من المفاهيم والمعايير التي يرفض هؤلاء على أساسها ويقبلون . وأردنا أن نسرّي هذه السياسة أو فقل : هذا القرار . على سائر الموارد ، فإن ذلك سيؤدي إلى مسخ حقيقي لكتب الحديث ، والتاريخ ، والتراجم ، والأنساب ، والرجال وما إلى ذلك . . ولا شك أن دين الإسلام الحق لا يجيز هذا . .
وإن ديناً يجيز لأتباعه أن يفرّطوا فيه بالحق ، إكراماً لفلان من الناس ، أو فلان . . لا يمكن أن يكون آتياً من عند الله سبحانه . . وليس هو ما جاء به رسله ، وضحى من أجله الأنبياء ، والأوصياء ، والأصفياء . .
عاشراً : إنني لست أدري لم صارت الخطبة الشقشقية دليلاً على حب الدنيا . وعلى أن قائلها لا يلتزم جانب الزهد والتقشف؟! ولم لا تكون صرخة الحق في وجه المعتدين على الحق؟! يطلقها مجاهد زاهد عابد ، لا تعني له هذه الدنيا شيئاً ، رغم علمه بالثمن الغالي الذي سوف يدفعه هو في حياته ، وأبناؤه ، وشيعته بعد استشهاده ، حين يسعى المتضررون من هذه الصرخة للانتقام ، بكل ما لديهم من كيد ومن قوة وجبروت ، وهم الذين يملكون كل أسباب القوة . . والسلطان . .
وكيف تجعل الخطبة الشقشقية دليلاً على الحرص على هذه الخلافة التي هي مقام دنيوي؟!!
ولا تجعل دليلاً على حرصه [عليه السلام] على التزام أوامر الله ، وتعريف الناس بمن انتهكوا الحرمات ، وارتكبوا الموبقات ، ولم يلتزموا بأمر الله ورسوله حرصاً منهم على الدنيا ، وسعياً لنيل بعض حطامها؟!
أحد عشر : إن من الواضح : أن علياً [عليه السلام] ، إنما ألقى خطبته الشقشقية في أيام خلافته ، وذلك معناه أنه لم يكن يريد بكلامه هذا التوطئة للوصول إلى الحكم ، وتأليب الناس ضد الحاكمين ، ليتهم بذلك الاتهام الباطل . .
بل كان يريد تعريف الناس بحقيقة ما جرى ، ويزيل عن أبصارهم الغشاوة ، ويخرجهم من ظلمات الأوهام ، ويحصنهم من الشبهات التي ربما يلقيها الآخرون لهم حول حقيقة ما جرى . .
وقد كان لا بد من أن يفعل ذلك ، لأن القضية ترتبط بأمر عقيدي تجب معرفة الحق فيه ، لأن فهمه بصورة خاطئة ستكون له عواقب وخيمة في الآخرة ، وفي الدنيا وفي كل المجالات فيها ، حيث إن مسألة الإمامة هي أهم مسألة واجهت المسلمين بعد وفاة الرسول [صلى الله عليه وآله] ، وتعرضت تعاليم رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، والقرار الإلهي فيها لكثير من التحريف والتزييف والتلاعب . كما هو معلوم .
فكان أمير المؤمنين [عليه السلام] يقوم بواجبه الإلهي الشرعي والإنساني ، بدلالة الناس على الحق ، وضبط اعتقادهم في الإمام وفي الإمامة ، وذلك واضح لا يخفى . .
إثنا عشر : لقد روى الشقشقية ، كثيرون قبل الشريف الرضي ، فقد رواها : ابن قبة الرازي في كتابه : الإنصاف في الإمامة ، والبلخي الكعبي المتوفى سنة 317 للهجرة ، وأبو أحمد العسكري ، والصدوق في معاني الأخبار ، وعلل الشرايع ، والعقد الفريد لابن عبد ربه المالكي .
ورواها أيضاً أبو علي الجبائي ، والمفيد المعاصر للرضي والقاضي عبد الجبار المعاصر له أيضاً في كتابه المغني . وأبو سعيد الآبي المتوفى سنة 422 للهجرة ، في نثر الدرر وكتاب نزهة الأديب ، ورواها غير هؤلاء من أعلام أهل السنة . . فراجع : كتاب مصادر نهج البلاغة وغيره . .
فإيراد الشريف لها ، في كتابه لا يوجب الطعن عليه ، ولا الطعن في الكتاب . .

5 ـ ومما أخذوه على نهج البلاغة ، أن فيه إخبارات غيبية ، حيث تنبأ بأمر الحجاج ، وفتنة الزنج ، وغارات التتار . .
مع أن النبي [صلى الله عليه وآله] ، لم يكن يعلم ذلك ، إذ قد قال الله تعالى :﴿ ... وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 12.
ونقول :
أولاً : إن هذه الأخبار بالمغيبات لم توجد في خصوص نهج البلاغة ، وحسب ، وإنما هي موجودة بكثرة في مختلف المصادر الإسلامية عنه [عليه السلام] ، فراجع أي كتاب شئت ، يذكر حربه [عليه السلام] مع الخوارج ، ويشير إلى ذي الثدية . فإن كانت هذه الأخبار مكذوبة ، فإنه يلزم الطعن في المصادر الأساسية عند المسلمين ومنها صحاح أهل السنة فإنها أيضاً قد تضمنت بعض هذه الأخبار .
ثانياً : إن كل أحد يعلم : أن رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، قد أخبر علياً [عليه السلام] بالكثير من المغيبات ، وقد تلقى النبي [صلى الله عليه وآله] علم ذلك عن الله سبحانه . .
ويكفي في ذلك مراجعة كتب الحديث للوقوف على الشيء الكثير مما أخبر به الرسول [صلى الله عليه وآله] ، عن أحداث آخر الزمان . . فما معنى قولهم : إن النبي [صلى الله عليه وآله] ، لم يكن يعلم ذلك؟!!
ثالثاً : إن هناك آيات كثيرة تدل على أن الأنبياء كانوا يعلمون أموراً غيبية .
فقد قال تعالى حكاية عن عيسى [عليه السلام] :﴿ ... وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ... 13.
وقد أنبأ النبي [صلى الله عليه وآله] ، عائشة بما أفشته من سره ﴿ ... قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ 14.
وقال عيسى [عليه السلام] لقومه : ﴿ ... وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... 15.
وقال الله تعالى لنبيه محمد [صلى الله عليه وآله] ، بعد أن قص عليه قصة مريم :﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ... 16.
وبعد قصة نوح :﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ... 17.
وبعد قصة إخوان يوسف :﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ... 18.
وبعد هذا فما معنى قولهم : إن النبي [صلى الله عليه وآله] ، لم يكن يعلم الغيب؟!
خصوصاً وأنه سبحانه قد قال :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ ... 19.
وقال تعالى :﴿ ... وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ... 20 .
وإنما يعلم الله أنبياءه بالغيب ، لأن رسالتهم ونبوتهم تقتضي ذلك . أو لأن مقامهم دعا إلى تكريمهم به ، لزيادة التمكين لهم في السعي لنيل منازل الكرامة والقرب والزلفى . .
رابعاً : إن علم البشر بالغيب يبقى مرهوناً بالفيض والعطاء الإلهي ، فليس هو من الأمور الذاتية لهم ، بل هو مستند إلى الله سبحانه ، ومنتهٍ إليه تعالى .
وقد أرى الله سبحانه نبيه إبراهيم [عليه السلام] ملكوت السماوات والأرض : ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... 21.
فرؤية إبراهيم [عليه السلام] ، لم تكن ذاتية ، وإنما هي بإراءة من الله تعالى . .
وحول المعراج للرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله] ، قال الله سبحانه : ﴿ ... لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ... 22فالإراءة له [صلى الله عليه وآله] قد جاءت منه تعالى . .
وقد نصب الله سبحانه اللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل ، فإشراف الرسول على ذلك اللوح ، ومعرفته بما يكشفه الله له فيه ، لا يعني أن يصبح علم الرسول بالغيب ذاتياً ، بل هو بالله ، ومن الله تبارك وتعالى . .
فكما لا يقاس علم الرسول بعلم البشر بالغيب ، لاختلاف طرقهما في نيل ذلك ، كذلك لا يقاس علم الله للغيب بعلم أنبيائه ، فإن علم الأنبياء إنما هو بالعطاء الإلهي ، وبالفيض منه عليهم ، فهو علم بالغير لا بالذات .
وبعد ما تقدم نقول :
إن ذلك يوضح لنا معنى الآيات التي تتحدث عن أن الأنبياء ينفون للناس أن يكون لديهم علم الغيب ، كقوله تعالى :﴿ ... وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ... 12 .
أي أنهم ينفون أن يكون علمهم ذاتياً ، وبالأصالة ، والاستقلال عن الله سبحانه . .
وحين تثبت الآيات علم الغيب لمن ارتضى الله سبحانه من رسول ، وأن عيسى يعلمهم بما يأكلون ، وما يدخرون في بيوتهم . . وغير ذلك ، فإنما تتحدث عن علمه الواصل إليه من الله ، بعطاء وفيض منه سبحانه . .
فصح سلب علم الغيب عنهم تارة ، وإثباته لهم أخرى ، نظير قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... 23 .
ويقول تعالى :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ... 24  .
ثم هو تعالى يقول : ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... 25.
وقد ذكر ابن ميثم البحراني [رحمه الله] أمراً هاماً هنا ، فقال : « المراد بعلم الغيب هو العلم الذي لا يكون مستفاداً عن سبب يفيده ، وذلك إنما يصدق في حق الله تعالى ، إذ كل علم لذي علم فهو مستفاد من جوده ، إما بواسطة أو بغير واسطة ، فلا يكون علم غيب ، وإن كان اطلاعاً على أمر غيبي ، لا يتأهل للاطلاع عليه كل الناس ، بل يختص بنفوس خصت بعناية إلهية ، كما قال تعالى : ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ ... 19 انتهى كلام ابن ميثم 26 .
فابن ميثم [رحمه الله] يقول : علم الغيب مختص بالله سبحانه ، أما الاطلاع عليه بتفضل وجود منه تعالى « سواء أكان ذلك بواسطة أو بغير واسطة » فإنه يحصل لمن تأهلت نفوسهم لتلقيه ، واستعدت لنيله وقبوله .
وقد استفاد [رحمه الله] هذا المعنى من قوله [عليه السلام] ، لمن قال له : لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب . « وذلك بعد إخباره بشأن الأتراك » قال : « يا أخا كلب ، ليس هذا بعلم غيب ، وإنما هو تعلم من ذي علم . .
إلى أن قال : وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه [صلى الله عليه وآله] ، فعلمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي »
فاستفاد [رحمه الله] من ذلك : أن تعليم رسول الله [صلى الله عليه وآله] له [عليه السلام] ، لم يكن مجرد تعريف له بالصور الجزئية ، بل إعداد نفسه بالقوانين الكلية ، إذ لو كان ما تلقاه ، من الصور الجزئية ، لم يحتج إلى دعاء الرسول [صلى الله عليه وآله] له بما ذكر ، لأن فهم الصور الجزئية أمر سهل . .
فالدعاء من النبي [صلى الله عليه وآله] ، لعلي [عليه السلام] ، بأن يعيه قلبه ، إلخ . . إنما هو ليكون مستعداً لفهم الكليات ، وتفصيلاتها ، وكيفية انشعابها ، وهذا ما يشير إليه قوله [عليه السلام] ، علمني رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، ألف باب من العلم ، فانفتح لي من كل باب ألف باب .
وعنه [صلى الله عليه وآله] : أعطيت جوامع الكلم ، وأعطي علي [عليه السلام] ، جوامع العلم .
أي ضوابطه وقوانينه ، وذلك بعطاء من الله سبحانه كما أشير إليه بكلمة « أعطي » المبنية للمفعول 26 .
خامساً : إننا لو فرضنا أن أحداً يريد أن يصر على اتهام الشريف الرضي ، ويقول : إن هذه الأحداث التي ورد الإخبار عنها ، قد سبقت عصره ، فلا مانع من أن يكون هناك من وضع ما يشير إليها بعد حصولها ، ويأتي الشريف الرضي أو غيره ، فيأخذها عنه دون أن يلتفت إلى أنها موضوعة . .
ونقول : لو جاز ذلك في تلك الموارد ، فإنما يجوز لو لم يمكن العثور على تلك الموارد في مصادر سابقة على تلك الأحداث أيضاً ، وفي هذه الحالة لو جاز ذلك فإنه لا يجوز بالنسبة لما ورد في نهج البلاغة عن غارات التتار ، فإنها قد بدأت في سنة 616 للهجرة أي بعد وفاة الشريف بأكثر من قرنين من الزمن .
ونسخ نهج البلاغة كانت متداولة ومخطوطته التي سبقت هذا التاريخ حاضرة ، وماثلة للعيان ، وهناك نسخة في مكتبة المتحف العراقي يرجع تاريخ كتابتها إلى سنة 556 للهجرة . كما أن ما ورد عن الزنج قد أوردوه في مؤلفات أخرى سبقت حركتهم .

6 ـ وأما الاعتراض على نهج البلاغة بشيوع السجع فيه ، مما يدل على أن ثمة تكلفاً لا ترسلاً وعصر الإمام علي [عليه السلام] هو عصر الترسل .
فنقول :
أولاً : إن من يراجع ما نقل إلينا من كلام رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، يجد : أن السجع فيه كثير ، وكذلك الحال فيما نقل إلينا من كلمات عن عرب الجاهلية وصدر الإسلام ، خصوصاً في حال الخطابة ، وفي حالات ضرب الأمثال ، وإعطاء الضوابط العامة . . والمراجعة للمصادر التي تذكر ذلك تغني عن إيراد الشواهد .
وهذا عمر بن الخطاب ، يستعمل السجع كما في تاريخ الطبري المجلد الثاني ص422 ط مؤسسة عز الدين ، وهناك أيضاً خطبته في الاستقاء ، وفيها : « الله قد ضرع الصغير ، ورق الكبير ، وارتفعت الشكوى ، وأنت تعلم السر وأخفى » . .
وراجع ما ذكره الطبري من كلام لبنت أبي حنتمة في رثاء عمر ، وكلام آخر لامرأة أخرى 27 .
وقد ذكر لنا التاريخ خطبة لقس بن ساعدة : « وهو جاهلي » كلها سجع 28 .
وخطب أبو بكر فقال : « استهدي الله بالهدى ، وأعوذ به من الضلالة والردى ، من يهدي الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً » .
وخطب أيضاً فقال : « يا معشر الأنصار إن شئتم أن تقولوا : آويناكم في ظلالنا ، وشاطرناكم في أموالنا . . ونصرناكم بأنفسنا ، قلتم : وإن لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد ، وإن طال به الأمد » .
وخطب عثمان فقال : « إن لكل شيء آفة ، وإن لكل نعمة عاهة ، وفي هذا الدين عيابون ظنانون ، يظهرون لكم ما تحبون ، ويسرون ما تكرهون ، ويقولون لكم وتقولون » 29 .
وقد ذكر في كتاب « المفيد في الأدب العربي ص51 » : أن من خصائص النثر الجاهلي السجع الذي كان توخى فيه التوازن الموسيقي ، وحسن الوقع ، فراجع . .
ثانياً : إنه حتى لو كان العرب منصرفين في التعبير عن مقاصدهم عن استعمال السجع ، فإن القرآن الكريم حين فتح لهم بابه ، وتجلت لهم محاسن هذه الطريقة ، وتأثيرها ، كما ورد في سورة الواقعة والقمر ، والذاريات والرحمن والطور . . وغير ذلك . سيجدون في أنفسهم الحافز لممارسة هذا الأسلوب في بيان مقاصدهم .

7 ـ وأما فيما يرتبط بالكلام المنمق الذي تظهر فيه الصناعة الأدبية ، التي هي وشي العصر العباسي وزخرفه ، كما في وصف الطاووس ، والخفاش ، والنحل ، والنمل والزرع والسحاب وأمثالها . .
فنقول :
أولاً : قد ذكرنا فيما سبق أن في القرآن من التعابير المجازية والكنايات والاستعارات ، وفيه أيضاً من بدائع الوشي الأدبي ، وروائع الترصيع البياني ، ما يعجز البشر عن مثله ، فهل يريد هؤلاء أن يقولوا أيضاً إن القرآن لا يناسب عصر النبوة ، بل هو مناسب للصناعة الأدبية التي هي وشي العصر العباسي؟!
ثانياً : إذا كان القرآن قد جاء بهذه الحلة ، واستعمل هذا الأسلوب بصورة مميزة ، فلماذا لا يستفيد منه ربيب القرآن ، والذي هو القرآن الناطق ، فيكون كلامه [عليه السلام] من أروع ما أنشأه العقل الإنساني الأكمل ، حتى صار فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق؟!! إنهم يقيسون علياً [عليه السلام] بأنفسهم ، وبنظرائهم من الناس الذين عاشوا بعيداً عن أجواء القرآن ، وعن السياحة الفكرية في معانيه وآياته البينات . وذلك من فحش الظلم وأبينه ، فأين الثرى من الثريا . .
ثالثاً : إن دعوى أن هذه الصناعة هي من وشي العصر العباسي غير صحيحة ، فإن في الشعر الجاهلي ، وفي الخطب الجاهلية أيضاً روائع غاية في الجمال ، وهي تحمل لمحات من هذه الصنعة ، ويظهر عليها هذا الوشي ، وفي المعلقات السبع بعض من ذلك ، وقصيدة بانت سعاد وغيرها ، بعض من ذلك . .
فهذه الصنعة ليست من مبتكرات العصر العباسي ، نعم هي أكثر شيوعاً فيه لأكثر من سبب . .
لكن هذا الشيوع لا يعني أن نحكم على ما أثر عن علي [عليه السلام] ، أنه مكذوب عليه ، وأنه من صنعة العصر العباسي . . فإن الذين عاشوا في العصر العباسي ليس لهم أي امتياز على علي [عليه السلام] ، ولا شك في أنهم يعجزون عما يقدر عليه [صلوات الله وسلامه عليه] . .

8 ـ وذكر أخيراً : أن في نهج البلاغة صيغاً فلسفية ، ومقالات كلامية ، وإنما عرفها المسلمون في القرن الثالث الهجري حين ترجمت الكتب اليونانية والفارسية ، وهي أشبه ما تكون بكلام المناطقة والمتكلمين منها بكلام الصحابة الراشدين . .
ونقول :
أولاً : إن هؤلاء يقيسون علياً [عليه السلام] ، على سائر الصحابة ، الذين كانوا من عرب الجزيرة الذين لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق . .
مع أن علياً [عليه السلام] يختلف في كل شيء عن هؤلاء الصحابة ، فلا يمكن أن يقاس به أحد منهم في علمه ، ولا في شجاعته ، ولا في فضله ، ولا في ملكاته وميزاته ، ولا في سياسته ولا في إيمانه ولا في زهده ولا في أي شيء من الفضائل والمكارم . .
وكيف يقاس به أحد ، وهو الذي عنده علم الكتاب ، وهو الذي علمه رسول الله [صلى الله عليه وآله] ، ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب . .
وقد أثبتت الوقائع العملية صحة ما نقول ، واعترف له بذلك أعداؤه ومناوؤوه قبل أن يعترف له به أصدقاؤه ومحبوه . .
ثانياً : لماذا لا بد أن ننتظر إلى القرن الثالث الهجري لنكتسب المصطلحات من اليونانيين بعد ترجمة كتبهم . . ولماذا لا تكون من إنتاج مدرسة القرآن ، ومن بركاته . ومن مبتكرات ربيب تلك المدرسة وخريجها وخِرِّيتها . .
ثالثاً : يا ليت هؤلاء قد ذكروا لنا قائمة بالمصطلحات اليونانية التي ظهرت في القرن الثالث ، ووردت في كلام وخطب علي [عليه السلام]!! إذ أننا لا نجد في هذا الكتاب شيئاً من ذلك ، وإنما نجد دقيق التعبير عن قضايا علمية ، تستبطن الحقيقة التي يراد توظيفها في الاستدلال ، وذلك من قبيل قوله [عليه السلام] ، أيّن الأين ، فلا يقال أين ، وكيّف الكيف فلا يقال له كيف .
وقوله : ليس لصفته حد محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود . .
وقوله : وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه ، فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن قال فيم؟ فقد ضمنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه .
كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة ، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، إلخ . . 30 .
فلا توجد فيها أية مصطلحات خاصة باليونان أو غيرهم . . وإنما فيها دقة في بيان الحق بأقرب الألفاظ إليه ، وأدلها عليه . .
رابعاً : قوله : عرفها المسلمون في القرن الثالث الهجري ، نقول فيه : إن ذلك إذا كان صادقاً على أهل القرن الثالث ، فلا يعني أن أحداً حتى ولو أفراداً من المسلمين لم يعرفوها قبل ذلك . .
نعم هي قد شاعت وذاعت في القرن الثالث الهجري . .
والحمد لله ، وصلى الله على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين 31 .