كيف تتم عملية استنباط الأحكام الشرعية من الأحاديث الشريفة في الفقه الشيعي الإمامي ؟

يُعتبر الحديث الشريف عند الشيعة الإمامية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم ، لذا فإنها تُوليه إهتماماً كبيراً و تهتمّ به إهتماماً عظيماً .
و الحديث عند الشيعة هو قول المعصوم ( عليه السَّلام ) و فعله و تقريره ، فما لا ينتهي إلى المعصوم ( عليه السَّلام ) ليس حديثاً عندهم ، خلافاً لغيرهم إذ اكتفوا في الحديث بانتهائه إلى أحد الصحابة و التابعين ، و للتمييز بين القسمين ربما يسمّون ما ينتهي إلى الصحابة و التابعين بالأثر .
و لأن الحديث اعتمد في تحمّله 1 و نقله الرواية الشفوية ثم الرواية التحريرية ، و لقد جاء أكثر الحديث عن طريق الآحاد ، و خبر الواحد ـ كما هو مقرر و محرر في علم أصول الفقه ـ لا يفيد اليقين بصدوره عن المعصوم ، فوضع العلماء ما يعرف بـ " علم الرجال " و " علم الحديث " لهذه الغاية 2 .
و علم الرجال : هو العلم الذي يبحث فيه عن قواعد معرفة أحوال الرواة من حيث تشخيص ذواتهم ، و تبيين أوصافهم التي هي شرط في قبول روايتهم أو رفضها 3 .
و لقد عدّ العلماء تعلّم علمي الرجال و الحديث من شروط الاجتهاد المطلق و من أساسيات الفقاهة ، و أعتبروه من المقدمات الضرورية للبلوغ إلى مرتبة الاجتهاد الفقهي و تطبيق عملية الاستنباط .
هذا و ان إخضاع الراوي إلى التقييم الدقيق في علم الرجال يعبّر عنه بالجرح و التعديل ، و يراد منه النتيجة الحاصلة من التدقيق في أحوال الراوي من حيث الوثاقة أو اللاوثاقة ، فالوثاقة تساوي التعديل ، كما أن اللاوثاقة تساوي الجرح في مصطلح علم الرجال 4 .
و تمتاز الشيعة عن غيرها من المذاهب بإخضاع كافة رواة الحديث من دون استثناء إلى هذا التقييم للتعرّف على حالهم و لتمييز الصالحين منهم من الطالحين و المؤمنين عن المنافقين ، كي يتسنى لهم أخذ الأحاديث من الصالحين و المؤمنين دون غيرهم .
أما السُنة فيستثنون الرواة من الصحابة من هذا التدقيق و التقييم ، فهم لا يخضعونهم للتقييم إذ يقولون بعدالة جميع الصحابة بلا استثناء ، و يعتبرونهم فوق مستوى الجرح و التعديل .
لكن علماء الشيعة يصرّحون بضرورة التدقيق في أحوال الرواة بصورة كاملة ، و يرون بأن الحديث إنما يصبح صالحا لأن يكون مصدراً من مصادر التشريع بعد مروره بالمراحل التالية :
1. تقييم رواة الحديث بصورة دقيقة لا يقبل التسامح لتشخيص و تعيين هوية الراوي بصورة كاملة ، و ذلك على أسس علمية و قواعد مرسومة في علم خاص بهذا الأمر يسمى بعلم الرجال ، و بالاستعانة بهذا العلم يتعرف العلماء على حال الرّاوي من حيث الوثاقة و اللاوثاقة ، فيقررون قبول روايته أو رفضها .
2. تقييم كافة الأحاديث المروية عن المعصومين ( عليهم السَّلام ) من حيث متن الحديث و طبقته لتمييز الأحاديث الصحيحة عن السقيمة ، و يتم هذا التدقيق و التقييم على أسس علمية رصينة و قواعد مدونة في علم خاص بهذا الأمر يسمى بعلم الدراية 5 .
3. ثم بعد ذلك تخضع الرواية للمناقشة في حجيتها في علم الأصول 6 .
4. و بعد ذلك كله تأخذ الرواية طريقها إلى استنباط الحكم الشرعي منها في علم الفقه ، و بعد ثبوت حجية الرواية و صلاحيتها للاستدلال بها يعتمدها الفقيه مصدراً تشريعياً يفيد منه الحكم المطلوب .
نعم هذه هي المراحل التي لابد و أن يمر الراوي و ما رواه من خلالها حتى يصل الحديث إلى مرحلة استنباط الحكم الشرعي منه .
مواصفات الراوي المقبول روايته ، و مؤهلاته :
1. الإسلام : فلا تقبل رواية الكافر مطلقاً ، أما قبول شهادة الذمي في باب الوصية في حق المسلم ، فهو خارج بالدليل ، و هو قول الله تعالى : ﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ 7 ، فقد فَسّرت الروايات قوله تعالى { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } بالذمي 8 .
2. العقل : فلا يقبل خبر المجنون و روايته ، و هو واضح و بديهي .
3. البلوغ : فلا يقبل خبر الصبي غير المميّز ، و بالنسبة إلى المميّز فالمشهور عدم قبول روايته .
4. الإيمان : أي كون الراوي شيعياً إمامياً أثنا عشرياً 9 .
5. العدالة : و هي كما يراه المشهور ، عبارة عن ملكة نفسانية راسخة باعثة على ملازمة التقوى و ترك ارتكاب الكبائر و عدم الإصرار على الصغائر ، و ترك منافيات المروءة التي يكشف ارتكابها عن قلة المبالاة بالدين ، بحيث لا يوثق منه التحرّز عن الذنوب 10 .
نموذج تطبيقي لعملية الاستنباط :
و فيما يلي نذكر نموذجاً تطبيقياً لكيفية الاستدلال بالرواية ، و كيفية مرورها بالمراحل المذكورة على وجه الإيجاز ، و لهذا الغرض نختار رواية من كتاب الكافي رواها الشيخ محمد بن يعقوب الكليني ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) ، و هي :
عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ( عليه السَّلام ) : قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُعْطِيَ السَّائِلَ بِيَدِهِ وَ يَأْمُرَ السَّائِلَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ " 11 .
إننا إذا أردنا أن نستدل بهذا الحديث الشريف علينا إتباع الخطوات التالية :
1. نرجع إلى كتب الرجال لنعرف مستوى قيمة كل راوٍ من رواة هذا الحديث و هم :
· محمد بن يعقوب الكليني : قال فيه النجاشي : " كان أوثق الناس في الحديث و أثبتهم " = إمامي عادل .
· علي بن إبراهيم القمي : قال فيه النجاشي : " ثقة في الحديث ، ثبت ، معتمد ، صحيح المذهب " = إمامي عادل .
· إبراهيم بن هاشم القمي : قال فيه الخوئي : " لا ينبغي الشك في وثاقة إبراهيم بن هاشم " ، ثم ذكر الأدلة الناهضة بإثبات وثاقته 12 = إمامي عادل .
· محمد بن أبي عمير الأزدي : قال فيه النجاشي : " جليل القدر ، عظيم المنزلة فينا و عند المخالفين " = إمامي عادل .
· عبد الله بن سنان : قال فيه النجاشي : " ثقة ، من أصحابنا جليل ، لا يطعن عليه بشيء " = إمامي عادل .
2. ثم نرجع إلى علم الرجال و نطبق القاعدة الرجالية القائلة : كل راوٍ شَهِد بوثاقته الرجاليون المتقدمون ، أو قامت القرائن الدالة على وثاقته ، هو ثقة .
و ننتهي من تطبيقها إلى أن رواة هذا الحديث كلهم ثقاة عدول .
3. و بعد ذلك نرجع إلى علم الحديث ، و نطبق القاعدة الحديثية القائلة : كل سند رواته إماميون عدول فهو صحيح .
فنتوصل إلى أن سند هذا الحديث معتبر و بمستوى الصحيح .
4. ثم نرجع إلى علم أصول الفقه ، و نطبق القاعدة الأصولية التي تقول : خبر الثقة حجة .
فتسلمنا إلى أن هذا السند حجة لأن جميع رواته ثقاة .
و بعد ثبوت صحة صدور هذه الرواية عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) ـ كما رأينا ـ نرجع إلى العرف الاجتماعي العربي ، و سنراه يرى أن دلالة هذا الحديث هي من نوع الدلالة الظاهرية ، لظهور معناه عندهم في استحباب إعطاء المريض الصدقة للسائل بنفسه ، و أمره أن يدعو له بالشفاء .
5. و أخيراً : نعود إلى علم أصول الفقه و نطبق على دلالة الحديث قاعدة الظهور التي تقول : كل ظاهر حجة .
فنقول : هذا ظاهر + و كل ظاهر حجة = فهذا حجة .
ثم نصوغ النتيجة باللغة الفقهية فنقول : يستحب للمريض أن يعطي الصدقة للسائل بنفسه ، كما يستحب له أن يأمره بالدعاء له بالشفاء 13 .

  • 1. التحمّل : مصطلح من مصطلحات علم الحديث ، و يراد منه تلقّي الراوي للحديث من الراوي الآخر الذي ألقاه إليه ، ثم الحفظ له من قبل الراوي المتلقي ، سواءً كان ذلك الحفظ استظهاراً و عن ظهر القلب ، أو كتابةً و تدويناً ، فالتحمّل ـ إذن ـ يعني الحمل ـ لغة ـ حمل في مشقة ، و من غير شك أن حمل الحديث فيه شيء من المشقة لما فيه من وجوب الاحتياط له من أن يدخله أو يشوبه شيء ليس منه . يراجع : أصول الحديث : 223 ، للعلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي ، الطبعة الثانية سنة : 1416 هجرية ، مؤسسة اُم القرى للتحقيق و النشر .
  • 2. العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي : أصول الحديث : 14 .
  • 3. العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي : أصول علم الرجال : 11 .
  • 4. لمعرفة الألفاظ المستعملة في الجرح و التعديل يراجع : أصول الحديث و أحكامه في علم الدراية : 153 ، للعلامة المُحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني ( حفظه الله ) ، الطبعة الثانية سنة : 1419 هجرية ، مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام ) قم / إيران . و أصول الحديث : 115 – 123 ، للعلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي ، الطبعة الثانية سنة : 1416 هجرية ، مؤسسة اُم القرى للتحقيق و النشر .
  • 5. علم الدراية : هو العلم الباحث عن الحالات العارضة على الحديث من جانب السند أو المتن . أصول الحديث و أحكامه في علم الدراية : 14 ، للعلامة المُحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني ( حفظه الله ) ، الطبعة الثانية سنة : 1419 هجرية ، مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قم / إيران .
  • 6. علم الأصول : صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل . يراجع : كفاية الأصول : 1 / 9 ، للعلامة المُحقق الخراساني ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) .
  • 7. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 106 ، الصفحة : 125 .
  • 8. يراجع : الرعاية في علم الدراية : 181 – 182 ، لزين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني ، المتوفى سنة : 966 هجرية .
  • 9. للتفصيل يراجع : عدة الأصول : 379 – 381 ، للعلامة محمد بن الحسن الطوسي ، طبعة مؤسسة آل البيت ، سنة : 1403 هجرية .
  • 10. يراجع : المعالم : 201 ، لجمال الدين حسن بن زين الدين العاملي ، المتوفى سنة : 1011 هجرية ، و عنه العلامة المُحقق آية الله الشيخ جعفر السبحاني ( حفظه الله ) : أصول الحديث و أحكامه : 134 .
  • 11. الكافي : كتاب الزكاة ، باب فضل الصدقة ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
  • 12. يراجع : معجم رجال الحديث : 1 / 317 ، لآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) .
  • 13. أصول علم الرجال : 21 – 23 ، للعلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي ( حفظه الله ) ، الطبعة الثانية سنة : 1416 هجرية ، مؤسسة اُم القرى للتحقيق و النشر .

تعليقتان