مجموع الأصوات: 69
نشر قبل 8 سنوات
القراءات: 23020

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القصص القراني على منصة التحقيق

﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ... 1
القصّة : الحديث ، الخبر ، الأمر الحادث ، الأُحدوثة ، الشأن ، الحال .
جمعها : قِصَص ، والمصدر قَصَص .
يُقال : قصّ عليه الخبرَ قَصَصاً ، إذا حدّثه به ، والقصّ والقَصَص : تتّبع الأثر ، يُقال : قَصَصتُ أثره أي تَتَّبعته ، قال تعالى : ﴿ ... فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا 2 ، أي رَجَعا إلى الوراء ليَستعلِما الحال ، وقال ـ على لسان أُمّ موسى ـ : ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ... 3 ، أَمَرتها بالفحص وتتّبُع أَثره ، ولتنظر مَن يأخذه من الماء .

وقَصَص القرآن : أَخباره عن أحوال الماضين ، من أُمّم وأنبياء سالفين ، وعن حوادث واقعة في سوالف الأيّام ، ممّا فيه العِبر والاعتبار للباقين .
وللقِصّة أثرها المباشر في النفوس وآكد في التربية والتعليم ممّا لو كان الكلام عارياً عن شواهد وأمثال ؛ ذلك أنّ النفوس تهفو إلى معرفة ما بين الأحداث وعِلَلِها وأسبابها من رَبطٍ ، وكذا بينها وبين النتائج المُترتِّبة عليها من علاقة وثيقة ، فلو أنّ المتكلّم أَبانَ وجهَ العِلَل والأسباب ، وكَشَف عن النتائج الحاصلة بشكل مستدلّ متين ، ووضع يده على مواضع العِبَر منها وذوات الاعتبار ، لكان قد اقترب من غايته في تأثير النُصح والإرشاد ، في أقرب طريق وأفضل أُسلوب مؤثِّر .
قال نظام الدين النيشابوري القُمي ، صاحب التفسير : الإنسان قد يَذكر معنىً فلا يلوح له مَبلغُ تأثيره ولا مدى تفهيمه كما ينبغي ، حتّى إذا شَفَّعه بشاهد مِثال ولا سيّما قَصَص الماضين ـ فيما إذا كان بصدد الوعظ والإرشاد ـ فتراه كلاماً ذا وَقْعٍ وتأثير حسبما يراد ؛ ذلك أنّ في الطِّباع محاولة المُحاكاة مع المشهود من جمالٍ أو كمالٍ ، فإذا ذُكر المعنى وحده كان قد أَدركه العقل ، ولكن مع منازعة الخيال ومحاولة رفضه في بادئ الأمر ، أمّا إذا شُفّع بذِكر شاهد من أحوال الماضين وذُكرت الأسباب المؤاتية والنتائج الحاصلة منها ، رَغَبت النفس في لَمسه في ذات ضميره ، فيكون أوقع في النفس وأقرب إلى القبول وإمكان التأثير .
ومِن ثَمّ كان من الضروري الإكثار في القرآن مِن ذِكر القَصَص والأمثال ، فإنّه الكتاب الّذي أُنزِلَ تِبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحمة للعالمين 4 .
وقال الإمام الرازي ـ بصدد بيان فائدة ذِكر قَصَص الأنبياء في القرآن ـ :
إنّه سبحانه لمّا بالغَ في تقرير الدلائل والبيّنات وفي الردّ على شُبُهات المعاندينَ ، شَفّعها بذِكر أحوال الأُمَم السالفة ومواضعهم من الأنبياء ؛ لغرض أنّ الكلام إذا طال في تقرير نوعٍ من أنواع المعارف ، فربّما حصل نوع من المَلال ، وليس إذا حصل انتقال من نوعٍ إلى نوعٍ ، ليزيد طَراوةً ويُنشِّط من رغبة السامعينَ .
وأيضاً ليكون الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله ) والمؤمنون في تسلية عمّا يُواجهوه مِن أذى الأعداء .
وليتأسّوا بمَن سَلف من الأنبياء والصالحين .
وكذلك ليكون تنبُّهاً للجُهّال المعاندينَ ، فلينظروا في أحوال الماضين مِن آبائهم وليَعتبروا بما أُصيبوا من الفشل والخُسران ، وأنّ اللّه تعالى لَيَنصر أولياءَه ويكون جندُه هم الغالبينَ .
وأخيراً فإنّها معجزة قرآنيّة يَذكر قَصَص الماضينَ نقيّة وسليمة من أكدار التحريف والتشويه ، على يد نبيّ أُمّي لم يَكتب ولم يَقرأ الكُتُب 5 .

أُسلوب القِصّة في القرآن

إنّ أُسلوب القصّة في القرآن جاء مُتميّزاً عن الأُسلوب المعروف للقِصّة في التراث الأدبي والإنساني ؛ حيث يكتفي القرآن الكريم بذِكر الأحداث بشكل مُقتطفات وبصورة إجماليّة أحياناً تاركاً التفاصيل ، وأحياناً بشكل مُتقطّع غير موصول ، واضعاً يده على نِقاط هي بيت القصيد مِن القصّة ، وفي الأغلب بشكل الاستطراد في التعرّض لمفاهيم وحقائق وموضوعات عقائديّة أو أخلاقيّة أو كونيّة ( سُنَن الطبيعة ) أو شرعيّة ، وغير ذلك من الخصوصيّات التي قد تُثير مُلاحظة كبيرة حول أُسلوب القصّة في القرآن الكريم ، وبذلك تَخرج عن كونها عملاً فنيّاً مُستقلاً له مميّزاته الخاصّة .
وهذا يعود إلى أنّ القرآن كتاب هداية ، وإنّما استَخدمَ الفنّ لغايته في أمر الهداية ؛ ومِن ثَمّ فإنّه يقتصر على موضع الحاجة منه في سبيل تحقيق هدفه الخاصّ ، ولا يُعيره اهتماماً فيما لا يعود إلى هذا الجانب بالذات .
وشيء آخر ، كان أُسلوب القرآن أُسلوب خِطاب لا أُسلوب كتاب ـ كما نبّهنا ـ 6 فلا مُلزِم له بسرد القضايا بانتظام وانسجام والإتيان بالتفاصيل والجُزئيّات ، كما هو شأن الكِتاب ، فلا يُراعي فيما يقصّ مِن قِصَص ترتيبَها الزمني ولا التواصل في ذِكر حادثة ، بل ينتقل من حَدث إلى آخر ، ثُمّ يأخذ بالتَجوال حسب اقتضاء الكلام .
ومِن ثَمّ فالقرآن يَجري في ذِكر الحادثة على أُسلوبه الخاصّ في ذِكر سائر المواضيع من المَزج والالتقاط وضمّ بعض الموضوعات والمفاهيم إلى بعض ؛ لمناسبة يراها مُقتضية ، وبذلك يخرج عن أساليب الكُتب المدوّنة ، لا لشيء إلاّ ؛ لأنّه كلام صِيغَ على أُسلوب الخطاب ، وفي فُسحة عمّا يتقيّد به أُسلوب الكِتاب .
فهو يَمزج الحقائق الكونيّة بالمعارف العقائديّة ، وبالأحكام الشرعيّة ، وبالمُوعظة والإرشاد والتبشير والتحذير ، والعواطف والمشاعر والأحاسيس بالعقل والإدراك .
كما أنّه قد يُكرِّر المُوضوعات والمفاهيم بصِيغٍ متنوّعة وفي سياقات مُختلفة ، كلاًّ حسبما يقتضيه المَقام وناسب اتجاه الهدف من ذِكر القصّة ، وفي كلِّ مرّة قد يزيد أو يُنقِص ، وقد يُوجز أو يُطنب حسب المُناسبة ؛ ومِن ثَمّ فله أُسلوبه الخاص خارجاً عن أساليب القصّة في الأدب الرائج .

مِيزات القصّة في القرآن

تَمتاز القصّة في القرآن في نقطتين أساسيّتين : الأُولى تَحرّي جانب الصدق والواقعيّة ، وليس مجرّد تخييل ، الثانية جانب الهدف والغرض الذي جاء من أجله القَصَص في القرآن ، فالقرآن لم يتناول القِصّة باعتبار أنّها عمل فنّي ، ولم يأتِ بها من أجل الحديث عن الماضينَ ، أو للتسلية أو المُتعة كما يفعل المؤرِّخون والقصّاصونَ ؛ وإنّما كان الغرض من القصّة في القرآن هو : المُساهمة مع جُملة الأساليب العديدة الأُخرى التي استخدمها القرآن ، لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينيّة والتربويّة ، وكانت القصّة القرآنيّة مِن أهمّ هذه الأساليب !
وانطلاقاً مع هذه الفِكرة وعلى هذا الأساس ، يُمكن أنْ نُحدّد الفَرق بين القَصَص القرآني وغيره من القَصَص ببعض النِقاط التي تُشكّل المِيزات والخصائص والصِّفات الرئيسيّة للقَصَص القرآني ، ويُمكن أنْ نجد هذه الخصائص قد أُشير إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 7 .
حيث يُمكن أنْ نفهم من هذه الآية اتّصاف القَصَص القرآني بالواقعيّة والصدق والحِكمة والتربية الناجحة :
أَوّلاً ـ الواقعيّة : بمعنى ذِكر الأحداث والقضايا والصور التي لها علاقة بواقع الحياة الإنسانيّة ومتطلّباتها المُعاشة في مسيرة التأريخ الإنساني ، مقابل أنْ تكون القصّة في القرآن إثارةً وتعبيراً عن الصور ، أو الخيالات ، أو الأماني ، أو الرَغبات التي يَطمح إليها الإنسان ، أو يَتمّناها في حياته .
ذلك لأنّ القرآن الكريم يُريد مِن ذِكر القصّة وأحداثها ، إعادة النظر في التأريخ الإنساني والقضايا الواقعيّة التي جرّبتها البشريّة في حياتها ، والتي عاشتها الأُمَم والرسالات الإلهيّة السالفة ، والتي تبيَّنت محاسنها عن مساوئها ، وليُؤخذ منها الاعتبار في الحاضر المُعاش ، فلا يُجرَّب ما جرّبته الآباء وحلّت بهم الندامة من قبل .
أمّا إذا انفصلت القصّة عن هذا الواقع ، وكانت مجرّد تسلية وسرد أحداث التأريخ الماضي ومِن غير نظرِ الاعتبار بها ، فهذا أشبه بكُتب الأساطير منها بكُتب التربية والأخلاق .
والإنسان في مسيرته التكامليّة ، بحاجة إلى أنْ يَنطلق مع الواقع نحو الطُموحات والكمالات ، وبدون ذلك ( بِلا دَرس واقعِهِ في الماضي والحال ) سوف ينفصل هذا الإنسان عن واقعه الراهن ، فيضيع في مَتاهات الآمال والتَمنّيات ، وقد عَبَّر القرآن الكريم عن هذه الحالة في الإنسان عندما تحدّث عن اليهود : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ 8 .
وعندئذ ( عندما خاضَ الإنسانُ في أَمانيه من غير مُلاحظة واقعِهِ ) لا يصل الإنسان إلى أهدافه وآمالِهِ العُليا ؛ لأنّ مَن لا ينطلق في اتجاه المسير من البداية فلا يبلغ النهاية .
ومِن هنا نجد القرآن الكريم يُحاول أنْ يُعالج من خلال القصّة ، الواقع الّذي كان يَعيشه المسلمون في زمن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) فيَذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحيةٍ ، كما يُعالج الواقع الذي سوف تعيشه الأجيال والعُصور الإنسانيّة المستقبليّة من ناحيةٍ أُخرى .
وهذا هو الذي يُفسّر لنا ما وَرد عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) من قولهم : ( إنّ القرآن يجري كما تجري الشمسُ والقمرُ ، كلّما جاءَ منه شيءٌ وقع ) 9 ، وأنّ القرآن حيّ مع الأبد ، لا يَموت مع مَن نَزَل في شأنهم بالذات 10 ، فإنّ انطباق هذا الكلام على القَصَص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوالهم أو بالتأريخ الماضي ، إنّما هو بلِحاظ هذا البُعد والصفة في القصّة القرآنيّة .
ولعلّ في الآية السالفة ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ... 11 إشارةً إلى هذه الصفة في القَصَص القرآني بوجه عام .
ثانياً ـ تَحرّي الصدق في ذِكر الأحداث والوقائع التأريخيّة التي تَعرَّض لها الأنبياء وأقوامهم في حياتهم ، وذلك في مُقابل الأكاذيب والانحرافات في الفَهم والسلوك أو الخُرافات التي اقترنت بقَصَص الأنبياء والأُمَم السالفة حسبما سُجّلت ( مُشوَّهةً ومُحرَّفةً ) في كُتب العهدَين بالذات ؛ على أَثر ضَياع وتحريف للحقائق عن قصدٍ أو بدون قصدٍ أو اشتباهٍ أو جهلٍ .
فما وَرَد في القرآن من أخبار وحوادث هي أُمور وحقائق ثابتة ليس فيها كَذِب أو خطأ أو اشتباه ، كما حَصَل في الكُتب السالفة ؛ ذلك لأنّ القرآن وحي إلهيّ ، واللّه لا يَعزب عن عِلمِه ذرّة في السماء والأرض ، ويعلم خائنةَ الأَعيُن وما تُخفي الصُدور ، والحاضر والماضي والمُستقبل لديه سواء ، ويؤكِّد على هذه الحقيقة قوله تعالى : ﴿ ... مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ... 11 !
وشيء آخر لعلّه أهم ، وهو : أنّ الأَخذ بعِبَر التأريخ إنّما يصحّ إذا كان إخباراً عن صدق ؛ ذلك لأنّه أَخْذٌ بتجارب مرّت على حياة الإنسان ، إنْ حسنةً أو سيّئةً ، ولا تجربة إلاّ إذا كانت واقِعَةً ، لا مجرّد فرض وتخييل !
والقرآن ، حتّى في ضرب الأمثال ، إنّما يَضع يده على حقائق مرّت على حياة الإنسان ؛ لغرض العِبرة ( كي لا تتكرّر إذا كانت مريرةً ، ولتتداوم إذا كانت جميلةً ) ولا عِبرة بمجرّد خيال لا واقع له .
ثالثاً ـ التربية على الأخلاق الإنسانيّة العالية ، في مُقابل التركيز على الأحاسيس والانفعالات في شخصيّة الإنسان ، والتربية على الاهتمام بالغرائز ، وإنّما اتّصفت في القرآن بالأخلاقيّة ؛ لأنّ المسيرة والحركة التكامليّة للإنسان ـ سواء على مستوى الفرد أو الجماعة ـ إنّما تَقوم على أساس الأخلاق بعد العقيدة باللّه تعالى والرسالات واليوم الآخر ، بل إنّ الاتّصاف بالأخلاق العالية هو الذي يُمثّل عُنصر التكامل الحقيقي في حركة الإنسان الفرديّة والجماعيّة ؛ ولذا كانت قاعدة المُجتمع الإنساني في نظر الإسلام قاعدة أخلاقيّة ، والسلوك الرّاقي للإنسان هو السلوك الأخلاقي ، وقد وَرَد عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) قوله : ( بُعثتُ بمكارم الأخلاقِ ومحاسنِها ) 12 .
لذا جاءت القصّة في القرآن الكريم ذات طابع أخلاقي وللتربية على الإيمان باللّه والعمل الصالح ، والسلوك الأفضل في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة ؛ ولعلّ هذا هو معنى الهُدى والرحمة في الآية السالفة ، ولذلك وَرَد قوله ( صلّى اللّه عليه وآله ) أيضاً : ( إنّما بُعثتُ رحمةً للعالمينَ ) 13 .
رابعاً ـ الحِكمة وكَشف الحقائق الكونيّة وسُنَن التأريخ والقوانين والأسباب التي تَتَحكّم أو تؤثِّر في مسيرة الإنسان ، وعلاقاته الاجتماعيّة ، والحياة الكونيّة المحيطة به ؛ لأنّ هذه الحقائق الكونيّة لها علاقة بمسيرة الإنسان التكامليّة ، مادام أَراد اللّه تعالى لهذا الإنسان أنْ يكون مُختاراً في حياته ومُستعبِداً للعِلم والحِكمة في تنظيم مسيرته ؛ ولذا كان من أهداف الرسالة : تعليم الكتاب والحِكمة ، حتّى ينتفع بها الإنسان في تقييم حياته وتنظيم مسيرته ، ولعلّه لهذه الصفة يقتصر القرآن الكريم في ذِكر القَصَص والأحداث التأريخيّة على ما يكون له علاقة بهذه الجِهة وفي اتّجاه هذا الهدف بالذات ، وإلى ذلك أشارت الآية : ﴿ ... وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ ... 11 ، حيث ينفتح من كلّ باب منه ألف باب ، وعلى وِزَان قوله تعالى : ﴿ ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ 14 ، وهذا بخلاف ما لو كانت القصّة لمجرّد التسلية أو لتدوين الحوادث والوقائع التأريخيّة ، كما هو شأن كُتب التواريخ .
تلك مِيزة القصّة القرآنيّة ، تعبيراً عن واقع الحياة ، لغرض التربية والعِبرة بتجارب التأريخ ، ولكشف الحقائق الراهنة المؤثِّرة في مسيرة الإنسان نحو الكمال ، وليس عبثاً ولا مجرد تسلية أو تخييل ، وهكذا افترقت القصّة القرآنيّة عن غيرها بأنّها قصّة الأحياء ، قياساً للباقين على الماضينَ ، وليس سرد حكاية الأموات أو نَقل آثارهم فيما تمتّعوا بالحياة ، وأَكثره عبثٌ لا خير فيه 15 ؛ ولذلك كان القرآن المُنزَّل أحسن الحديث 16 .

أغراض القصّة في القرآن

نجد القصّة القرآنيّة تستوعب في مضمونها وهدفها كلّ الأغراض الرئيسيّة التي جاء من أجلها القرآن الكريم ، بعد أنْ كانت القصّة هي الأداة المُفضَّلة التي استخدمها القرآن في سبيل تحقيق أهدافه وأغراضه جُمَع .
ومِن ثَمَّ نرى القرآن قد استخدم القصّة لإثبات الوحي والرسالة ، وإثبات وحدانيّة اللّه ، وتَوحّد الأديان في أساسها ، والإنذار والتبشير ، ومظاهر القُدرة الإلهيّة ، وعاقبة الخير والشرّ والصبر والجزع والشكر والبَطَر وما إلى ذلك من أهداف رساليّة وعقائديّة ، تربويّة واجتماعيّة وسُنَن التأريخ وما شابه ، وإليك الأهمّ من هذه الأغراض : 17
1 ـ كان من أغراض القصّة إثبات الوحي والرسالة ، وأنّ ما يَنزِل على مُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) هو وحي من عند اللّه ، لا شيء سِواه ، فمُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) لم يكن يَكتب ولا يقرأ الكُتب ، ولا عُرف عنه أنّه جَالسَ أحبار اليهود والنصارى ، ثمّ جاءت هذه القَصَص في القرآن على أدقّ وصف وأحسن بيان لا تحريف فيها ولا تشويه ، فكان أدلّ على أنّه وحي يُوحى وليس نقلاً عن كُتب محرّفةّ أو أَقاصيص مشوّهة ، والقرآن يَنصّ على هذا الغرض نصّاً في مقدّمة بعض القَصَص أو في أعقابها .
جاء في أَوّل سورة يوسف : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ 18 .
وفي نهاية السورة : ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 7 .
وجاء في سورة القَصَص قبل عرض قصّة موسى : ﴿ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 19 ، وبعد انتهائها : ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 20 .
وجاء في سورة آل عمران في مبدأ عَرضه لقصّة مريم : ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ 21 .
وفي سورة ( ص ) قبل عرض قصّة آدم : ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ 22 .
وفي سورة هود بعد قصّة نوح : ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ... 23 .
فكلّ هذه الآيات وأمثالها إنّما جاءت لتؤكِّد فكرة الوحي الّتي هي الفكرة الأساسيّة في الشريعة الإسلاميّة .
2 ـ وكان من أغراض القصّة : بيان وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء ، وأنّ الدين كلّه من اللّه سبحانه ، وأنّ الأساس في الجميع واحد ، لا نُفرِّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، ولمّا كان هذا غَرضاً أساسيّاً في الدعوة وفي بِناء التصوّر الإسلامي فقد تكرّر مجيء هذه القَصَص على هذا النمط ، مع اختلاف في التعبير ، لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في النُفُوس ، وربّما وردت قَصَص عِدّة من الأنبياء مُجتمِعَةً في سورة واحدة ، مَعروضةً بطريقة بديعة لتؤيِّد هذه الحقيقة .
خُذْ مَثَلاً سورة الأنبياء ، يتابع قَصَص موسى وهارون وإبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيّوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ومريم ، ويُعقّب كلاًّ بذِكرٍ جميلٍ ، وفي النهاية يقول : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ 24 ... وهذا هو الغرض الأصيل من هذا الاستعراض الطويل ، وغيره من الأغراض الأُخرى يأتي عَرَضاً وفي ثناياه !
وجاء في سورة النحل : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 25 .
وفي سورة المائدة : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ... 26 .
وفي سورة البيّنة : ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ 27 .
وهذا الغرض يهدف في حقيقته إلى بيان إبراز الصلة الوثيقة بين الشريعة الإسلاميّة وسائر الشرائع الإلهيّة التي دعا إليها الرُسُل والأنبياء جميعاً ، وإنّ الإسلام يُمثِّل امتداداً لها ، ولكنّها يَحتلّ منها مركزَ الخاتِمَة التي يجب على البشريّة جَمعاء الرُضوخ إليها : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ... 28 ، وبذلك يَسدّ الطريق على أهل الزيغ الذين يلهجون بمُساقاة الأديان الغابِرة والحاضرة وأنّ اتِّباع أحدها يكفى للرُشد واحتضان معالم الهداية والنجاة في الآخرة ، على أساس أنّها حقيقة واحدة مُوحاة مِن قِبَل اللّه تعالى وأنّ الإسلام يُصدّقها كذلك !
والقرآن يرفض هذه الفكرة المُفرِّقة رفضاً ويؤكّد على أنّ الحقيقة تركّزت في طريق تكاملها في شريعة الإسلام ، وقد صرّح القرآن بذلك في قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ... 29 ، أي لا محيد ـ في بُلوغ سعادة الحياة ـ عن مُتابعة شريعة الإسلام بالذات !
3 ـ وأيضاً من تمام هذا الغرض بيان أنّ الدعوة الرساليّة في الإسلام ليست بِدعاً في تأريخ الرسالات ، وإنّما هي وطيدة الصلة بها في الأهداف والتصورّات والمفاهيم : ﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ ... 30 ، بل إنّها تُمثّل امتداداً لهذه الرسالات ، وتلك الرسالات تُمثّل الجذر التأريخي للرسالة الإسلاميّة ، فهي رسالة إلهيّة لها هذا الامتداد في التأريخ الإنساني ، ولها هذا القَدر من الأنصار والمضحّين والمؤمنين .
4 ـ وهكذا يؤكِّد على أنّ وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة ، وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة ، وأنّ العوامل والأسباب والظواهر التي تواجهها الدعوة واحدة ، وقد أَكّد القرآن في عِدّة مواضع على هذه الحقيقة ، وأشار إلى اشتراك الأنبياء في قضايا كثيرة ، من ذلك قوله تعالى : ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ... 31 .
وقوله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ 32 .
وكذلك قوله : ﴿ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون 33 .
ويتحدّث القرآن أَحياناً عن الرُسُل حديثاً عامّاً ، ليؤكِّد هذه الوحدة بينهم في الوسائل والأساليب ، كما جاء في سورة إبراهيم : ﴿ ... جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ... 34 .
والسبب وراء تأكيد القرآن لهذه الحقيقة هو : بَيان صلابة تلك المواقف وأنّها جميعاً حقّ غالِب في نهاية المَطاف : ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ... 35 ، ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ 36 .
5 ـ ومِن ثَمّ كان من أغراض القصة في القرآن الرئيسيّة هو بيان أنّ الله يَنصر أنبياءه في النهاية ويُهلك المُكذِّبين وذلك ؛ تثبيتاً لموقف مُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) وتأثيراً في نُفُوس المؤمنين : ﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ 37 .
وتَبَعاً لهذا الغرض كانت تَرِد قَصَص الأنبياء مُجتَمِعَةً مختومةً بمَصارع مَن كذَّبوهم ، ويتكرّر بهذا عرض القَصَص كما جاء في سورة ( العنكبوت ) .
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ 38 .
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 39 إلى أنْ يقول : ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 40 .
﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ 41 إلى أنْ يقول : ﴿ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 42 .
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ 43 .
﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ 44 .
﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ 45 .
﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 46 .
وتلك هي النهاية الواحدة للمُكذِّبينَ !
6 ـ وكان مِن أغراض القصّة بيان نِعَمِ اللّه على أصفيائه وخالصي عباده ، كقَصَص سُليمان وداود وأيّوب وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريّا ويونس وموسى ، فكانت تَرِد حلقات من قَصَص هؤلاء الأنبياء تَبرُز فيها النعمة في مواقف شتّى ، ويكون إبرازها هو الغرض الأَوّل ، وما سواه يأتي عَرَضاً .
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا 47 .
7 ـ وأيضاً بيان غَوايَة الشيطان لهذا الإنسان ومَبلغ عدائه له ، وتربّصه به الدوائر والفرص ، فليَحذر بنو آدم من هذا العدّو الذي أغوى أَباهم مِن قبلُ ، ولا شكّ إنّ إبراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصّة يكون أوضح وأَدعى للحَذر والالتفات ؛ لذا نجد قصّة آدم تتكرّر بأساليب مُختلفة تأكيداً لهذا الغرض ، بل يكاد يكون هذا الغرض هو الهدف الرئيسي لقصّة آدم كلّها .
وأغراض أخرى كثيرة تَلتقي مع أغراض الرسالة في عدد وفير ومستوى رفيع 48 .

أسرار التَّكرار في القَصَص القرآني

وهذا يعود إلى تعدّد الأغراض التي تَهدِفُها القصّة في مجال التربية ، وليست القصّة إذا ذُكرت مرّةً استَنفَدَت أغراضَها الدينيّة والتربويّة ، ليكون التحدّث عنها مرّةً أُخرى عبثاً وتَكراراً للمُكرَّر !
القصّة إذا كانت ذات جوانب عديدة فإنّها إنّما تُذكر كلّ مرّة بلحاظ جانبٍ منها مُناسب للحال والمقام ، وقد يُعفى هذا الجانب ويُلحظ جانب آخر في مناسبة أُخرى وهكذا لعدّة مرّات .
وأكثر القَصَص تَكراراً في القرآن حديث موسى و فرعون وتأريخ حياة بني إسرائيل ؛ ذلك أنّ اليهود كانت جاورَت العرب مُنذ حين ، وكانت العرب تعرف مِن شأنهم وتُعظِّم مِن قَدْرِهم ما لا تكاد تعرفه أو تُقدِّره من سائر الأُمَم ، وكانت الأدوار التي مرّت على حياة بني إسرائيل ومواقفهم مع الأنبياء أشبه بحالات كانت تَعتَور العرب حين ظهر الإسلام ، فكانت العلاقة وثيقة بين الحياتَينِ ، تلك في غابرها الماضي وهذه في حاضرها الراهن .
والمُلاحَظ في تَكرار قصّة نبيّ اللّه موسى ( عليه السلام ) الفَرق بين رُوحها العامّة عندما تُذكر في السور المكّيّة ، ورُوحها في السور المدنيّة ، فإنّما تؤكِّد في القَصَص المكّي منها على العلاقة العامّة بين موسى من جانبٍ وفرعون وملأه مِن جانبٍ آخر ، دون أنْ تَذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه ، إلاّ في موردَينِ يُذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكلٍ عام ، وهذا بخلاف الروح العامّة لقصّة موسى في السور المدنيّة ، فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل ، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة .
وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التَّكرار للقصّة في السور المكّيّة إنّما كان ؛ لمعالجةٍ روحيّةٍ تتعلّق بحوادث مُختلفة واجهَتْ النبيّ والمسلمين ومشاكلهم مع المشركينَ ، ومِن أهداف هذه المُعالجة تَوسِعَة نِطاق المَفهوم العامّ الذي تُعطيه القصّة في العلاقة بين النبيّ والجبّارين مِن قومه ، وأنّ هذه العلاقة لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف ، والتأريخ يُكرِّر نفسه .
وهكذا يختلف سرد قَصَص نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء ، باختلاف الأحوال التي كان يُعالجها المسلمون في طُول الدعوة ، فأطواراً بمكّة وأطواراً بالمدينة حسب تغيّر الأوضاع .
ومن الناحية الأدبيّة أيضاً نرى القرآن عند ما يُكرِّر الحديث عن حادث أو عن ظاهرة طبيعيّة ، فإنّه لا يُكرِّرها إلاّ وفي هذا التَّكرار نُكتة وظرافة لاحَظَها حَسَب المُناسبة ، الأمر الذي يزيد في بلاغة البيان القرآني وربّما إلى حدّ الإعجاز ، إذ يعني ذلك : أنّ بإمكانه سرد قصّة واحدة بأنحاء وأشكال ، كلّ مرّة يأتي بالعجيب من الكلام ، بحيث لا يَملّ السامعُ من الإصغاء ، حتّى ولو سَمِعها في عدّة مواطن ، فإنّه لا يَمجّها لمرّة أُخرى وأُخرى ؛ لِما في كلّ مرّة من طَراوةٍ وإبداءِ شيء جديد ، وفي كلّ جديد لذّة ! وقد عُدّ ذلك وجهاً من وجوه إعجاز القرآن في بديع بيانه .
ولتاج القُرّاء أبي القاسم محمود بن حمزة الكرماني تَصنيف لطيف بهذا الشأن ، ذَكَر فيه الفوارق البديعيّة في مُكرَّرات الآيات ، وأبدع في ذلك ، اقتطفنا منه قَبَسات عند الكلام عن الإعجاز البياني للقرآن 49 .

الحرّية الفنّية في قَصَص القرآن

هناك ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرّية الفنيّة ( الأدبيّة ) تُوجد في القرآن عند سرد أحداث التأريخ ممّا جَعلته مُمتازاً عن مِثل التوراة التي هي أشبه بكتاب تأريخ منه بكتاب هداية ، ونستطيع أنْ نعرض عليك منها الظواهر التالية : 50
1 ـ إهمال القرآن ـ حينما يقصّ ـ كثيراً من مقوّمات التأريخ من زمانٍ ومكانٍ ، وأحياناً أبطال المعركة ، فليس في القرآن قصّة واحدة عنى فيها الزمان ، أمّا المكان إهمالاً يكاد يكون تامّاً لولا تلك الأمكنة القليلة المُبعثرة هنا وهناك والتي لم يُلفِت القرآن الذهن إليها ، كما عَمَد إلى إهمال الأشخاص في بعض أقاصيصه إهمالاً تامّاً ، اللهمّ إلاّ إذا كان لمعرفة الأشخاص دَخلاً في العِبرة بها .
وهذا مِن أُصول البلاغة في الكلام ، أنْ لا يَذكر من الحادث إلاّ ما كانت له صِلة بغرض الكلام .
2 ـ اختياره لبعض الأحداث دون بعض ، فلم يَعنِ القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أُمّة تصويراً تامّاً كاملاً ، وإنّما يَكتفي باختيار ما يُساعده على الوصول إلى أغراضه ، أي ما يُلفِت الذهن إلى مكان العِظة وموطن الهداية ؛ ولعلّه من أجل ذلك كان القرآن يجمع في المُوطن الواحد كثيراً من الأَقاصيص التي تنتهي بالقارئ إلى غاية واحدة .
3 ـ كان لا يَهتمّ بالترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها ، وإنّما يُخالف في هذا الترتيب ويَتجاوزه ، الأمر الذي أكثر من الإشارة إليه الأُستاذ الشيخ مُحمّد عَبده ، قال ـ بعد سردِ قَصَصٍ بني إسرائيل ذواتِ عِبَرٍ من سورة البقرة ـ : جاءت هذه الآيات على أُسلوب القرآن الخاصّ الذي لم يُسبَق إليه ولم يُلحَق فيه ، فهو في هذه القَصَص لم يلتزم ترتيب المؤرِّخين ولا طريقة الكُتّاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع ، حتّى في القصّة الواحدة ، وإنّما يُنسِّق الكلام فيه بأُسلوب يأخذ بمجامع القلوب ، ويُحرِّك الفكر إلى النظر تحريكاً ، ويَهز النفس للاعتبار هزّاً .
وقد راعى في قَصَص بني إسرائيل أنواع المِنَن التي منحهم اللّه تعالى إيّاها ، وضروب الكُفران والفُسوق التي قابلوها بها ، وما كان في أثر كلّ ذلك من تأديبهم بالعقوبات ، وابتلائهم بالحسنات والسيّئات ، وكيف كانوا يُحدِثون في أثر كلّ عقوبة توبةً ، ويُحدِث لهم في أثر كلّ نوبة نعمةً ، ثُمّ يعودون إلى بَطَرهم ، وينقلبون إلى كفرهم ! 51
وهكذا قصّة لوط جاءت في سورة الحجر : ﴿ فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ * وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ 52 .
لكنّها لو لُوحظت مع إحدى قَصَص لوط في القرآن كقصّته في سورة هود 53 تختلف عنها في ترتيب سرد أحداثها ، فتبتدئ بمجيء الملائكة ، ثُمّ حاله واضطرابه النفسي ، ثُمّ مجيء القوم ثُمّ موقفه وعرض بناته حتّى لا يَخزى ، ثُمّ ردُّهم عليه وعزمُهم على إتمام عزمهم ، ثُمّ موقف الملائكة وإخبارهم إيّاه بأنّهم رُسُل ربّه ، وإخبارهم بمجيء العذاب وموعده ، ثُمّ نوع العذاب .
فهنا نَلحظ أنّ المحاورة بينه وبين قومه تتمّ قبل أنْ تُخبِرُه الملائكة بأنّهم رُسُل ربّه ، والقصّة تجري بعد ذلك وقد رُتّبت وَقائِعُها الترتيب الذي يُشعر بأنّ الزمن هو المحور الذي يربط هذه الوقائع المختارة أو هذه الأحداث المصوّرة .
أمّا في سورة الحِجر فالملائكة تُعْلِمه كلّ شيء قبل مجيء قومه ، ومع ذلك تمضي المحاورة مع قومه وكأنّه لم يَعلم بأنّ أضيافه من الملائكة .
وليس يَخفى أنّ هذا بعيد عن الوقائع ، ومشاكلته قريب من القَصَص وما فيه مِن حرّيّة تُؤذن للقاصّ بأنْ يُرتِّب أَحداثه الترتيب الذي يصل إلى الغرض ويؤدّي إلى الأهداف .
ولعلّ السبب في هذا الاختلاف : القصد من قصّة لوط في سورة هود هو تثبيت قلب النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) ومِن أجل ذلك عنى القرآن أَوّلاً بما ينال لوطاً مِن أذىً وقلقٍ نفسي ، كما نال مُحمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) وهو باخعٌ نفسَه على أنْ لا يكونوا مؤمنينَ وضائِق به صدره الكريم ، أمّا القصد من القصّة في سورة الحِجر فقد كان بيان ما يَنزل بالمَكذِّبينَ مِن عذاب ؛ ومِن ثَمّ بدأ به قبل كلّ شيء .
4 ـ إسناده بعض الأحداث لأُناس بأعيانهم في موطن ، ثُمّ إسناده الأحداث نفسها لغير الأشخاص في موطنٍ آخر ، ومِن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف : ﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ 54 إذ نَراه في سورة الشعراء مَقولاً على لسان فرعون نفسه : ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ 55 .
ويبدو أنّ هذا كلام تَذاكَرَه فرعون مع بِطانته من رجال الدولة ، فصحّ إسناده إليه تارة وإلى الملأ من قومه تارة أخرى ، ولذلك نجد تعقيب الآية الأُولى بقوله : ﴿ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ 56 ، نفس التعقيب الذي جاء للآية الثانية ، سِوى تبديل ( أرسل ) بقوله ( وابعث ) ، وتبديل ( ساحر ) بقوله ( سحّار ) ، والسحّار ( مِن أَبينة الحِرَف ) هو صاحب السِحر ، ويتّحد مع الساحر في المفهوم .
وهكذا تجد في قصّة إبراهيم من سورة هود 57 أنّ البُشرى بالغُلام كانت لامرأته ، بينما نجد البُشرى لإبراهيم نفسه في سورة الحِجر 58 وفي سورة الذاريات 59 ، ذلك ؛ لأنّ البُشرى بالذرّية لإبراهيم بُشرى لامرأته العجوز ، كما يَبدو ذلك من سرد القصّة في سورة الذاريات .
5 ـ إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مُختلفة حين يُكرِّر القصّة ، ومِن ذلك تصويره لموقف الإله مِن موسى حينَ رؤيته النار ، فقد نُودي في سورة النمل بقوله : ﴿ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا ... 60 وفي سورة القَصَص : ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 61 وفي سورة طه : ﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى 62 .
وذلك يَشبه تصويره للمُوقف الواحد بعبارات مُختلفة حين صوَّر خوف موسى ، فمرّةً اكتفى بقوله : ﴿ ... خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ... 63 ، ومرّةً أُخرى قال : ﴿ ... فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ 64 ، وهكذا في غيرهما من المواقف ، كتعبيره بالرَجفة مرّة وبالصيحة أُخرى والطاغية في غيرهما ، وكتعبيره في انشقاق الحَجَر عن الماء في قصّة موسى ، فانفجرت مرّة وانبجست أُخرى .
وهكذا مِن المسائل التي جَعلتهم يعدّون القَصَص القرآني من المُتشابِه ، ولكن ليس مِن شكّ في أنّ الاختلاف كانت نتيجة تغيُّرٍ في القصد أو الموقف ، وأنّ هذا التغيّر جَعل هذه قصّة وتلك قصّة ، وما لا نَرى من اختلافٍ ليس إلاّ الصور الأدبيّة التي تُلائم المقاصد والأغراض .
خُذْ لذلك مَثلاً قصّة موسى وصاحبه وفَعْله العجائب ، فتارة يقول له موسى : ﴿ ... لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا 65 وأُخرى : ﴿ ... لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا 66 ؛ لأنّ الإمْر ـ بكسر الهمز ـ : هو الأمر العَجَب ، وكلّ أَمر خالف المألوف فهو يُثير العَجَب ، سواء أكان خيراً أم شرّاً .
وهذه العبارة جاءت بشأن خَرْق السفينة بما لا يستلزم غَرَق أهلها ، فقد أثار عجب موسى ؛ حيث لم تَعد فيه فائدة ولا حِكمة ظاهرة ، ولعلّ فيه حِكمة خفيّة !
أمّا النُكْر : فهو الأمر المُنكر البادي قبحُه بوضوح ، وهو يَعود إلى قتل الغلام وهو طفل لم يَعقِل شيئاً ولم يرتكب ذنباً .
ومِن ذلك أَيضاً التعبير عن الأَرض اليابسة ، بالهامدة 67 مرّة وبالخاشعة 68 مرّة أُخرى ، وذلك ؛ لاختلاف المُوقف والغرض :
فالأُولى في سورة الحج : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 69 .
والثانية في سورة فصّلت : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 70 .
والفارق بين الآيتَين هو السياق ، حيث مَساق الكلام في الآية الأُولى مَساق الحديث عن البَعث والنُشور ، فناسَبَ التعبير بالهُمُود بعده نُشور ، والهُمُود هو الخمود والهدوء يشبه هُمُود الموت .
أمّا الآية الأُخرى فسياقها سياق عبادة وضَرَاعة فناسب التعبير بالخشوع ، خشوع الذُلّ والاستكان ، يُقال : خَشَعت الأرض إذا يَبَست ولم تُمطَر .
والشواهد على ذلك كثيرة ووفيرة في القرآن .

حالات كائنة أَبرزها الترسيم

هناك الكثير من قَصَص قرآنيّة هي ترسيمات لحالات واقعيّة كائنة ، حكايةً عن أمر واقع ، وليست مجرّد فرض أو تخييل ، وهذا كحديث الأمانة وعَرْضِها على السماوات والأرض والجبال فأَبَيْنَ أنْ يَحملنَها وأَشفَقْنَ منها وحَمَلها الإنسان ، إنّه كان ظلوماً جَهولاً 71 .
وهذا تمثيل لعَرض الاستعدادات ، كان الإنسان أكثر استعداداً وأقوى قابليّة لحَمل الأمانة ، وهي ودائع اللّه أَودَعَها الإنسانَ لقابليّته الذاتيّة ، والتي هي عبارة عن العقل وقُدرة الهيمنة والإبداع ، وحتّى يكون خليفةَ اللّه في الأرض ، استحقّ الشموخ إلى هذا المقام الرفيع ، بفضل قابليّته الفائقة ، غير أنّه جَهول بشأن نفسه ظلوم لا يعرف قَدْر نفسه 72 .
فهذا ترسيم رائع للقابليّات واستجلاء أَرقاها وأَقوَمِها ، وهو أمر واقع وليس محض خيال .
وحديث ( أَخْذ الميثاق ) : ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ 73 حكاية حال واقعة... بياناً لفطرة الإنسان على التوحيد :
الإنسان ، في جبلّته مَفطور على الإقرار بالتوحيد ، كما في الحديث المُستفيض عن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( كلّ مولود يُولد على الفطرة... ) 74 ، وهو المعنى أيضاً بقوله تعالى : ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ... 75 ، وهكذا قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 76 ، إشارةً إلى العَهد المُودَع في فِطرة الإنسان ، وكلّ إنسان إذا راجع ضميره وَجَد هذا العَهد جليّاً بأَسطُره الواضحة ؛ ومِن ثَمّ صرّح الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( أنّ الأنبياء إنّما بُعثوا ليُثيروا دفائِنَ العُقول ) 77 ، فدلائل التوحيد لائحة في عقول بني الإنسان لولا تراكم الغُبار عليه ، وهكذا كانت العُقول حُججَ اللّه الباطنة ، وكان الأنبياء الحُجج الظاهرة جاءوا لدعم العُقول 78 قال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : ( إنّ اللّه تبارك وتعالى أكملَ للنّاس الحُججَ بالعُقولِ ) 79 .
وهذا هو العَهد الذي عاهدَ اللّهُ الإنسان عليه ، مُعنِيَاً به الفِطرة التي فَطَر الناس عليها ، كنايةً عن العقول التي رُكّبت في ذَوات الأَنفُس .
أمّا ما حَسَبه البعض من إرادة ( عالَم الذرّ ) ـ حسبما جاء في بعض التفاسير ـ وأنّ اللّه أخرج ذُرّيّة آدم من صُلبه وأَشهدهم على ربوبيّته... فهذا شيء لا مَساس له بالآية الكريمة ، ولا كانت الآية مُشيرةً إليه ، بل ومنافاته مع ظاهر التعبير ، حيث قوله تعالى : ، وليس من ظهره فحسب .

القِصّة في القرآن حقيقة واقعة

سبق أنْ نبّهنا أنّ القصّة في القرآن هي حكاية عن أمر واقع ، كانت تجربةً مرّت على حياة الإنسان ، إنْ زاهيةً أو مريرةً ؛ لغرض الاعتبار بها ، ولا اعتبار بما فَرَضه الوهم أو تصوّره الخيال !
نعم قَصَص القرآن حوادث واقعة ( تأريخيّة ) رَسَمَتها ريشةُ الفنّ الأدبي في أَبدع صورها وأَروع أشكالها ؛ لغرض التأثير على النُفُوس والأَخذ بمجامع القلوب ، فهناك مَزْجٌ بين التأريخ والأدب وليس مجرّد فنّ التمثيل .
ذلك أنّ القرآن استخدم الفنّ في ترويج دعوته ، مع الحِفاظ على الواقع المتمثّل به ؛ لغرض التأكيد على التأثير ، ومُتجنِّبَاً مجالات ومحض الخيال ؛ إذ لا تأثير لمجرّد الفرض وقد أكّد علماء التربية على مجانبة الابتناء على أساس مُنهار ، إذ لا قِوام لبِناء كان أَساسه على جُرُف هار .
التربية لها مجال حقيقي في حياة الإنسان ، فلا ينبغي بِناؤها على أساس الفرض ممّا لا واقع له سِوى الوهم والخيال . وسُرعان ما ينهار البِناء إذا لم يكن له أساس مكين .
على أنّ القرآن ـ وهو كتاب هداية له دعوة الحقّ ـ في غنىً عن التَمثُّل بمفروضات الخيال ، بعد وفور الأحداث والتجارب التي مرّت على حياة الإنسان ، وقد كَلّفته أثماناً باهظة إنْ رابحةً أو خاسرةً ، هي تَصلح لأنْ تقع موضع عِبرته في مُستقبل الزمان ؛ نظراً لوحدة مُتطلَّبات الحياة في غابِر الأزمان وحاضرها والآتي .
والخلاصة : أنّ القصّة في القرآن هي تجربة واقعيّة قاسَها الإنسان في حياته الغابِرة ، ولتكون عِبرةً في مُستمرّ حياته ، وليست مجرد فرض خيال :
أَوّلاً ـ لأنّه في غنىً عن اللجوء إلى مَفروضات خياليّة أو مشهورات هي مقبولات عامّيّة ، بعد وِفرة التجارب ذوات العِبَر في سالف حياة الإنسان .
ثانياً ـ لأنّ البِناء على أساس الفرض والخيال سُرعان ما ينهار إذا ما كَسَحَته واقعيّات الحياة ولا سيّما بعد فضح الحال 80 .

تعليق واحد