الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الأصل الكريم والميلاد المبارك (للنبي محمد المصطفى)

الأَصْلُ الكَرِيم

مكة المكرّمة

مدينة حجازية أنشئت منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي أمره الله تعالى أن يرحل ببعض ذريّته إلى أرض الحجاز، ليبني هناك بيتاً لله يُعبد فيه ولا يُشرك به، فجاء وعمَّر البيت الذي سُمي الكعبة.

ومن نسل إبراهيم عليه السلام انحدرت قبائل استعربت فيما بعد، وكانت إحدى هذه القبائل تسمّى ب- (قريش)، وكانت هذه القبيلة منقسمة إلى عشرة فروع، وكان لكل فرع سيادته واستقلاله، كما كان لكل منها نظامه القبلي الخاص الذي يتكوّن من رئيس للقبيلة النافذ الكلمة، المُطاع الأمر، ومن سائر أفراد القبيلة التابعين له اتِّباع الفصيل لأمه.

بَنُو هاشم

وكانت إحدى هذه القبائل العشر تسمى ب- (بني هاشم)، كما كانت لفظة (بني أمية) قد وضعت لقبيلة أخرى.

وبنو هاشم هي القبيلة التي كان النبي محمد صلى الله عليه واله ينتسب إليها، حيث إنه كان من أحفاد عبد المطلب الذي كان بدوره من أبناء هاشم، شيخ العشيرة.

عبداللَّه وآمنة

كان عبد المطلب، شيخ بني هاشم، ورئيسها المطاع، وكان له عشرة أولاد، أصغرهم وأفضلهم هو عبد الله. وكانت في مكة قبيلة قريبة تُعرف ببني زهرة، منحدرة من نسل زهرة بن كلاب بن مُرة. وكانت امرأة من هذه القبيلة تسمى ب- (آمنة) بنت أحد شرفائها (وهب بن عبدمناف). فلمّا شبَّ عبد الله، زوّجه والدُه بآمنة، وتمَّ الزواج على أسعده.

الميلاد المبارك

ولم تمضِ إلَّا مدة يسيرة حتى حملت آمنة بسيّد البريّة النبي محمد صلى الله عليه واله في حين أن عبد الله، والده الكريم، كان قد سافر في رحلة تجارية إلى الشام. فلما بلغ مدينة (يثرب) التي سُمِّيت فيما بعد بمدينة الرسول، توفاه الله تعالى، فَوُلِدَ النبي يتيماً.

ورافقت ميلادَه الكريم حوادث خارقة حيث انخمدت نيران فارس المجوسية، وغاضت بحيرة ساوة وسقطت شرفات قصر كسرى ملك الفرس، ونُكّست الأصنام.

واحتفلت أسرة بني هاشم بمولده المبارك احتفالًا باهراً، وذلك لأن عبدالله كان أحبّ بني هاشم إلى أنفسهم. غير أن المنيّة اختطفته وهو في نُضرة شبابه، وبقيت مَنِيَّتُهُ ثلمةً في قلوبهم وجرحاً عميقاً في نفوسهم. فكان ميلاد محمد صلى الله عليه واله بلسماً لذلك الجرح، وسدًّا لذلك الفراغ، وذكرى لذلك الشاب العظيم.

وحيث كان من عادة الشرفاء في مكة أن يطلبوا لأبنائهم مراضع من أهل البادية، لتكون نشأة أولادهم سليمةً عن الضعف الجسمي والنفسي، فقد اتَّخذ عبد المطلب- شيخ بني هاشم، وكفيل النبي محمد- امرأةً عربيةً من أفصح القبائل العربية لساناً وأكرمهم خُلقاً لتكون مرضعةً ومربيةً له. تلك كانت (حليمة) المنسوبة إلى قبيلة (بني سعد) التي كانت تسكن أطراف مدينة طائف.

ودرج الطفل المبارك في أحضان القبيلة البدوية التي كانت تنظر إليه نظرة المحبة والود، لأنه كان منشأ البركة والخير فيها، وأخذ ينمو نموًّا سريعاً.

ولما بلغ السادسة من عمره، رافق أمه آمنة في سفرة ودِّيَّة الى يثرب (المدينة)، وحينما قفلوا راجعين توفيت آمنة في منزل «الأبواء» تاركة ابنها الوحيد يتيم الأبوين.

ولما بلغ الثامنة تُوُفِّي عبد المطلب جدُّ النبي وكفيله، وترك كفالة محمد صلى الله عليه واله إلى أبي طالب عليه السلام، كما خوّل إليه سيادة بني هاشم، ووفادة الحاج.

ولم يكن أبو طالب كفيل النبي فقط، بل كان بمثابة والدٍ حنون يرى في إكرام ابن أخيه (محمد) وفاءً لحق أخيه عبد الله، وإطاعةً لأمر أبيه عبد المطلب، وأداءً لمسؤولية سيادته على بني هاشم، وعملًا بوظيفته الإنسانية المقدسة في الحياة.

فكان النبي صلى الله عليه واله يذهب معه إلى المرافق العامة، حتى تلك المناطق التي كانت محرّمة على غير السادة والأشراف، مثل دار الندوة التي كانت بمثابة رئاسة الوزراء في المملكة، وكان لا يدخلها إلَّا من كان سيِّداً في قومه. ذلك لأن أبا طالب كان حريصاً على حياة محمد وتربيته، حتى أنه لما أراد أبو طالب أن يواصل رحلة قريش التي كانت تتّجه إلى كل من اليمن في الشتاء، والشام في الصيف لغرض التجارة، اصطحب معه النبي صلى الله عليه واله وهو فتىً لم يبلغ مبلغاً من العمر يؤهله الى مثل هذه الرحلة المليئة بالأخطار.

وحينما سارت القافلة، رأوا شيئاً غريباً لم يكونوا عرفوه من قبل. فقد رأوا أن سحابة ترفرف على القافلة فَتُظللهم من الشمس، وتُبدِّل الرحلة الخطيرة إلى رحلة سعيدة مريحة.

الراهب بُحيرا

بالقرب من مدينة بصرى القديمة، كانت تقوم صومعة يسكن فيها عابدٌ مسيحيٌّ، اشتهر في الناس أنه صاحب كرامات وتنبؤات صادقة.

ولم يكن هذا الراهب يعتني بالقوافل التجارية التي كانت تمرّ بمنطقته في سيرها إلى الشام وإلى الحجاز، لأنه كان مستغنياً عنهم، في الوقت الذي كانوا محتاجين إليه.

وكانت قد مرَّت قافلة قريش التجارية بهذه المنطقة مرات عديدة، ولم يرمقهم هذا الراهب بطرف، ولا خطروا عنده ببال.

أما في هذه المرة فقد تبدلت الأمور، قبل أن يصل الركب، رأى الناس أن الراهب يتطلع إلى الصحراء، ثم يقلب وجهه في السماء كأنه يطلب شيئاً في الأرض وشيئاً في السماء، فلما اقترب الركب، لاحظ الناس أن الراهب يراقب سحابة في السماء كأنها تسير على أثر خطوات الخيل والجمال سواء بسواء. وحينما وصلت قريش إلى رحاب الصومعة دعاهم الراهب إلى الإقامة فيها للعشاء تلك الليلة، وتعجَّب الناس كلهم من هذه البادرة، إلا أن الراهب أزال دهشتهم بتصريح أدلى به على مأدبة العشاء حيث قال: إن إكرامه وإعظامه لقريش إنما هو لوجود هذا الفتى السعيد بينهم، وبشّرهم بما سوف يكون من أمره من الرسالة المقدسة.

وتكررت هذه البشارة مرة أخرى في الشام، حيت التقى بالنبيِّ راهب آخر كان يدعي ب- (أبو المويعب) وبشَّر الناس قائلًا: هذا نبيّ الزمان.

ورجع النبي صلى الله عليه واله إلى مكة وامتلأ رفاقه في تلك الرحلة إعجاباً به وإعظاماً له. فلما قصّوا على الناس قصصهم في السفرة، اشتهر أمر النبيّ صلى الله عليه واله أيَّما اشتهار.

ثم بَدرت من النبي بوادر طيبة جعلت الناس تنظر إليه نظر التوقير والاحترام. فحينما هدم السيل بنيان الكعبة، وأرادت قريش ترميمها، اختلفت في الذي يجب أن يحظى بفخر وَضْع الحجر الأسود في مكانه من ركن الكعبة، فقد كان لذلك الحجر شأن عظيم في نظر قريش وسائر العرب، وكاد الزعماء في قريش يحارب بعضهم بعضاً، بيد أنَّ حكماءها قالوا: لنحتكم إلى أول داخل من هذا الباب، فرضي الجميع بذلك.

ووقف الناس ينتظرون أول الداخلين من ذلك الباب، فإذا بطلعة النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه واله قد أشرقت عليهم، وإذا صوت واحد يقول: هذا الأمين قد رضينا به. فعرف النبيُّ ماجرى بينهم، فأمر بأن يؤتى بثوب، ثم أمر بأن يأخذ كل زعيمٍ بطرف منه ثم وضع الحجر فيه وأمر برفعه حتى إذا تساوى مع الحائط أخذه النبيُّ ووضعه في موقعه. وهكذا حفظ النبي صلى الله عليه واله بهذا الحكم العادل المنصف حقوق القبائل كلها، كما أنه فاز بفخر تركيز الحجر بنفسه، ورضيت به قريش صاحب فخر ومجد بالغين.

وكانت الرذيلة والأخلاق السيئة متفشّية بين الشباب بصورة فاحشة، حتى أنه لم يكن في العرب شاب لم يتدنس بسيئاتها إلَّا الشاذ النادر.

ومع كل ذلك فلم يسجل العرب المعاصرون للنبي صلى الله عليه واله والمراقبون لأيام شبابه، أي ميل إلى الباطل أو أي مشاركة في لهو أو لغو، بل العكس فقد لاحظ الناسُ في النبيِّ صلى الله عليه واله كلَّ معاني الشرف والنبل، وكل سمات الإنسانية والصلاح.

والمعروف أنه كان قد تم الاقتراح على شرفاء مكة وساداتها، أن يكوّنوا لجنة تدافع عن حقوق الضعفاء، وتراعي أمورهم. فاستجابت النفوس الطيبة إليه، وأقسموا قسماً شرفيًّا بذلك؛ وسُمِّيَ ب- (حلف الفضول)، وسواءً كان النبي صلى الله عليه واله هو المقترح أو غيره، فإنه قد حضره وقد أشاد به بعد الرسالة حيث قال: «لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمُوْمَتِي حِلْفاً فِيْ دَارِ عَبْدِاللهِ بْنِ جَدْعَانَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيْ بِهِ حُمْرَ النِّعَمِ، وَلَوْ دُعِيْتُ إِلَيْهِ فِيْ الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ» 1.

الأمين .. الحكيم

وحيث عرف أهل مكة فيه هذا السموّ الخُلقي والنبل المعنوي، فقد ائتمنوه على أمورهم، وسلَّموا إليه ودائعهم، كما أفشوا إليه أسرارهم، واستشاروه في قضاياهم الخاصة، فكان يُعرف بينهم بالأمين وبالصادق الحكيم.

أما ما يخصّ أمر كفيله أبي طالب، فقد كان النبي وفياً له، برًّا به. فلقد كان أبو طالب فقيراً مُعيلًا، حيث إنَّه كان سيِّداً يتحمل مسؤوليات السيادة الخطيرة التي كانت تحتاج إلى المال قبل كل شيء، وكانت موارده قليلة جدًّا، فلذلك أخذ النبي يفكر منذ صباه في طريقة للعيش يُخفِّف بها مسؤولية الكفالة عن عمه أبي طالب.

فاشتغل برعي الغنم شأن صبيان العرب في مكة، بفارق أنه كان يتأهل بذلك لمسؤولية الرسالة أيضاً، وذلك أنه ما بعث الله نبيًّا إلَّا وقد كان راعياً في يوم من أيام حياته!.

ومرّت الأيام، وشبّ النبي صلى الله عليه واله، ولم تعد هذه الطريقة لائقة به في مثل سنّه، فأخذ يمارس التجارة. ثم سعى عمه في إرساله بتجارة إلى الشام تخص السيدة خديجة بنت خويلد، المرأة الثرية التي كان يُتاجر بأموالها كثيرون من سكان مكة، على أن يكون الربح بينها وبينهم، فتمَّ له ذلك.

وحينما ذهب النبي صلى الله عليه واله في هذه الرحلة التجارية، كان من أوفق التجارات التي تمت بمال خديجة إلى ذلك الحين. وقد كان ظهر من النبي صلى الله عليه واله في تلك الرحلة معاجز كثيرة، لما قُصَّتْ على خديجة رغبت بالزواج بالنبيّ صلى الله عليه واله، فقبل النبيّ بذلك، ووافق عليه عمه أبو طالب. فتم الزواج السعيد في السنة الخامسة والعشرين من عمر النبيّ الشريف. وكان زواجه تحوُّلًا في حياته الاجتماعية. حيث لم يعد الآن صاحب بيت وأولاد فقط بل وصاحب ثروة كبيرة ضخمة أيضاً.

ورُزق النبيُّ صلى الله عليه واله من خديجة خمسة أولاد هم (زينب) و (أم كلثوم) و (فاطمة) و (رقيّة) و (القاسم، أو الطاهر) عليهم السلام.

لقد كان هذا الزواج أوفق زواج يُعرف في صدر الإسلام.

أما بالنسبة إلى خديجة فإنها أصبحت به: زوجة النبيّ، والأم الكبرى للمسلمين. بعد أن اتَّصل بها أشرف الخلائق أجمعين.

وأمّا بالنسبة للنبيّ صلى الله عليه واله فقد كانت خديجة أول من آمن به، ثم نصرته وبذلت ما لديها من المال والجاه والحكمة في سبيله وفي سبيل نشر دعوته المقدسة. ولم يزل النبيّ يذكر لها ذلك حتى آخر لحظة من حياته. وقد كانت وفاة خديجة تعادل عند النبيِّ صلى الله عليه واله موت عمه أبي طالب، فلقد تأثر بهما تأثراً بالغاً، ثم فقدهما في عام واحد حينما كان أحوج ما يكون إليهما معاً 2.