مجموع الأصوات: 12
نشر قبل 4 أشهر
القراءات: 463

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

السيدة مريم وتحديث الملائكة لها

ان ما ذكرناه من الاشارة الى مصحف فاطمة (عليها السلام) وكيفية نزول جبرئيل عليها ليسليها بمصاب أبيها بعدما دخلها من الحزن الشديد، لم يكن ذلك إلا حالة من حالات الوحي، إلا أنه وحي غير نبوي أثبته القرآن في مواضع عديدة لرجال ونساء كاملين في مقام الحجية لقوله ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ... 1 ومعلوم أن ما وقع لمريم (عليها السلام)من وحي هو قسم أعظم من نزول جبرئيل(عليه السلام) وذلك لحصول القسم الأول لها مضافاً الى الثالث كما أن تقديم ذكره في الترتيب في قوله تعالى 2 لشرفيته على القسمين الثاني والثالث وهو الايحاء من وراء حجاب وارسال رسول يوحي باذن الله تعالى، والشاهد على حصول الأول لها قوله تعالى:﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ ... 3 وفاعل قال ههنا هو الله تعالى لأنها وجهت قولها مخاطبة الله تعالى متصلاً بالآيات السابقة في سورة آل عمران ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... 4 ففي الآيات السابقة الاشارة الى نزول الملائكة عليها وقولها لها بالبشارة.

ويشهد لكون الخطاب والقول هو من الله تعالى في الآية المزبورة، أن القول لم يكن من جبرئيل كما قد يتوهم اذ أن تمثّل جبرئيل لها والذي تستعرضه سورة مريم كان بعد مدة زمنية فاصلة عن نزول الملائكة بالبشارة، ويشهد لذلك أيضاً أن مريم(عليها السلام)أعادت تعجبها ﴿ قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا 5 من دون توجيهه الى الله تعالى، وكانت اجابة جبرئيل لها بتذكيره لجواب الله تعالى المتصل ببشارة الملائكة في سورة آل عمران. وعلى ذلك فيظهر من سورة آل عمران أن الوحي الذي حصل لمريم بُعيد الوحي بتوسط الملائكة بالبشارة، هو من الوحي بدون وساطة الرسول الملائكي ولم يكن تكليماً من وراء حجاب أي أنه من النمط الأول من أقسام الوحي المشار اليه في سورة الشورى وهو أعلى أنماط الوحي كما يدلّ عليه الترتيب الذكري، وهو لا يحصل في الغالب إلا للأنبياء المرسلين من طبقة أولي العزم وفي بعض حالاتهم.

فهذه منقبة ومقام عظيم يتلوه القرآن الكريم لمريم بنت عمران. كما أن مفاد الوحي لمريم هو ابلاغها بنبوّة عيسى وبعثته بشريعة الانجيل، فكان تصديقها بكلمات الله وكتبه بتوسط الوحي الذي حصل لها، لا عبر نبيّ مرسل وهو زكريا(عليه السلام) أو يحيى(عليه السلام) وقبل تولّد ابنها النبي عيسى(عليه السلام)، فكانت قد أوكل اليها مسؤولية ابلاغ نبوة عيسى(عليه السلام) الى الملأ من قومها، وهذا نظير ما ورد في الصديقة الزهراء(عليها السلام) من نزول اللوح الاخضر عليها المتضمن لأسماء الائمة (عليهم السلام)وما ورد من أن مصحفها(عليها السلام)متضمن للوصية بالامامة في ذريتها. كما أنها كانت محدثة من قبل الملائكة كما كانت مريم مع أنها ليست بنبي، وقد روى الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) قال:"سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول: انّما سميت فاطمة(عليها السلام)محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء تناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة انّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها قالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: ان مريم كانت سيدة نساء عالمها وان الله عزّوجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين"6.

على أن مريم أوحي اليها وكلّمتها الملائكة ولم تكن نبيّاً ولا رسولاً، فالتحديث لم يقتصر اذن على نبويّة الموحى اليه، بل يكفي ذلك أن يكون من حجج الله تعالى كما هو الحال في مريم(عليها السلام) اذ كلّمتها الملائكة وحدّثتها بالبشارة، وقد دلّت مجموعة آيات على تحديثها منها:

قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا 7.

محاورة بين مريم وبين الوحي تُبيّن الاصطفاء الالهي المقدس الذي حضيت به مريم(عليها السلام)، فتمثّل جبرئيل بشراً سوياً ليُلقي لها البشارة من الله تعالى ويكشف ذلك عن الدرجة التي بلغتها مريم كحجة من حجج الله تعالى، اذ التمثّل هذا نظير التمثّل الذي حدث لابراهيم(عليه السلام) عند اتيانه البشارة كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ ... 8 فكان البشارتين كانتا في سياق واحد، وهو منح ابراهيم اسحاق ويعقوب نبيين، كما منحت مريم (عليها السلام) عيسى نبياً مرسلاً، فالتشابه في مهمتي نبي الله ابراهيم لتلقيه البشرى في اسحاق ويعقوب كمهمة مريم في تلقيها البشارة الالهية في عيسى(عليه السلام)، وهذه البشارة الالهية لها دلالاتها الخطيرة في مهام المبشر فضلاً عن المبشَّر به.

على أن حالتي التمثّل لدى نبي الله ابراهيم(عليه السلام) هي نفسها حالة التمثل التي حصلت لمريم (عليها السلام)، والتمثل لم يكن تغيّراً في المتمثل حقيقة، بل هو تغير في ظرف الادراك، فلا تغير اذن في الخارج ولا في نفس الماهية الملكية للوحي.

ومن هنا سيتبيّن عِظَم مسؤولية مريم (عليها السلام) من كونها في مصافي الانبياء، وممن هداهم الله واجتباهم من غير النبيين وهي مريم (عليها السلام)التي تحتل مقام الحجية لله تعالى بما يقارب حجية الأنبياء إلا في خصوصيات النبوّة والرسالة.

ولم تقتصر حالة التكليم للملائكة من قبل مريم، بل تترقى الى الوحي المباشر مع الله تعالى مع أن وحي الله تعالى كان قبل تمثّل جبرئيل لها.

قال تعالى حكاية عن مريم: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ 9.

فالوحي الالهي المباشر الذي حظيت به مريم(عليها السلام) يكشف عن خطورة المنزلة التي تحتلها مريم(عليها السلام)، اذ الوحي الالهي المباشر لا يختص به إلا بعض الأنبياء وفي أوقات خاصّة، وهذا نظير ما حدث لزكريا(عليه السلام) حين كلّمته الملائكة وبشرته بيحيى ومن ثم كان وحي الله تعالى له مباشرة يكشف عن حقيقة مهمة، وهي تشابه حالتي زكريا ومريم في تلقي البشارة وتكليم الملائكة لهما ومن ثم تكليمها الله تعالى، فحالتا الاصطفاء والبشارة كما حدثت لنبي الله زكريا حدثت مثلها وفي ظرف زماني متقارب لحجة الله مريم(عليها السلام)، دليل على التقارب بين مهمتي المقامين، أي مقام النبوّة لزكريا، ومقام الحجية لمريم، والآيات التالية تتكفّل ببيان المقام، قال تعالى:﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ 10.

فتوارد النظائر في الحالتين دليل على وجود ترابط ظاهر أو خفي بين حالتي نبوّة زكريّا وحجية مريم (عليها السلام)، والنظائر الواردة في الآية للحالتين كما يلي:

اتيان البشارة لزكريا وتكليمه الملائكة أثناء عبادته لله تعالى فقال تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ... 11.

كما أن البشارة لمريم وتكليمها الملائكة حين قيامها لله تعالى منتبذة قومها قائمة لله قال تعالى ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا 12.

وتكليم نبي الله زكريا لله تعالى بلا واسطة، قال تعالى حكاية عن زكريا: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ 13 وهو نظير ما حدث لمريم(عليها السلام)، قال تعالى حكاية عن مريم: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ 13.

فكلاهما عرضا مقتضي الامتناع عن قابليتهما لبشارة الغلام، اذ احتج زكريا كون امرأته عاقراً غير مقتضية للحمل وهي في هذا السن المتقدم، ومريم احتجت بكونها غير قابلة للحمل لعدم امكان ذلك من دون زوج، وكان جوابه تعالى لهما واحداً:﴿ ... قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ 13 مما يدلل على وحدة المقام لكلا الحالتين حالة زكريا وحالة مريم فضلاً عن ارتباط المهمتين، والتشابه بين البشارتين تتكفله سورة مريم، قال تعالى: ﴿ ... أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ... 11. على أنا لا نغفل عما تقدم من دعاء زكريا من كون دعائه في طلب الولد كان معللاً بخوفه الموالي من بعده أن لا يحسنوا خلافته، اذ كان زكريا مشفقاً على دعوته أن لا يخلفها أحد من بعده، فهو سيخلف من ورائه موالي سوء، لا يحسنون خلافته في دعوته فضلاً عن وراثته مما ترك، مما يعني أن يحيى سيواجه خطر التنافس على وراثة أبيه فضلاً عن عدم التصديق به من قبل قومه ومواليه، وكون هؤلاء يتحينون موت زكريا ليتوثّبون على خلافته، وسيكون لمريم وابنها أثراً مهماً في تأييد دعوة يحيى وتصديقه، إتماماً لرسالة زكريا ودعوته وحفظهما من الضياع الذي سيؤل اليه تنافس قومه، فمريم(عليها السلام)سيكون موقفهما موقف المدافع والمصدّق لرسالة زكريا في حفظ يحيى من تكذيب قومه ووثوبهم على خلافته، لكونهما يشتركان في نفس المهمة.

وسيأتي التماثل بين فاطمة وبين مريم في مقامي الحجية، فانّ فاطمة(عليها السلام) أيضاً أثبتت بحجيتها خلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله)المتمثلة في علي بن أبي طالب(عليه السلام) إبّان صراعها ومدافعتها المتوثبون للخلافة حيث تحفزوا أن يخرجوا وراثة الرسول(صلى الله عليه وآله)من آله عليهم السلام، تماماً كما تماثلت ظروف وراثة زكريا وما آلت اليه الخلافة الالهية ليحيى حيث قتلوه ونكلوا به أخيراً 14.