الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

حجية مريم بنت عمران عليها السلام

وحجية مريم صرّح بها القرآن بقوله تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ... 1 والآية هي الحجة أي جعلنا عيسى وأمّه حجة، عن يحيى بن أبي القاسم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله عزّوجل ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ... 1 قال:أي حجّة 2، فحجيّتها (عليها السلام) في عرض حجية ولدها نبي الله، بل حجيتها سبقت حجية عيسى، كما أن حجية عيسى تلت حجيتها زماناً واقتضاءً.

فالترتب الزماني بين الحجتين ظاهر، اذ كان تكليم الله لها وكذلك الملائكة قبل ولادة عيسى بفترة، على أن السبق الزمني لا يكون بالضرورة لخصوصية معينة، وانّما هي أشبه بحالات ارهاص لنبوّة عيسى(عليه السلام) ولا شك أنها خصوصية عظيمة ومنزلة رفيعة. فقوله تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ... 1 أي انّ المسيح وأمّه كليهما من أصول الديانة المسيحية بل من الاعتقادات اللازم الاعتقاد بها عند المسلمين أيضاً لوجوب الايمان بكل كلمات الله وآياته وكتبه ورسله وآياته وحججه لقوله تعالى ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... 3، أي انّ مريم(عليها السلام) من الحجج الالهية. كما سيأتي بيان الآيات الأخرى المفسرة لمعنى كونها آية.

كما أنها مقتض لنبوّة عيسى(عليه السلام) لكونها قد حضيت بتكليم الله تعالى فضلاً عن تحديث الملائكة لها، وتلقيها البشارة كما أن تبتلها ومقامها وفضلها كان احدى مرتكزات بني اسرائيل كما يشير الى ذلك قوله تعالى ﴿ ... وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ... 4 وقوله ﴿ ... وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ... 5 مما أكد على مصداقيتها لديهم فكان قبول معجزة عيسى ونبوّته بعد ذلك احدى موجبات حجيتها لديهم، لذا فان أخيارهم وعقلائهم قبلوا المعجزة وسلّموا لها، وبقي جهالهم وطغاتهم يخوضون في بهتانها وايذاءها وهو شأنهم.

فأمُر الله تعالى لها بتحمّل مسؤولية الانجاب بطريقة المعجزة من دون زوج احدى مقتضيات نبوّة عيسى وشريعته المباركة، فحجيتها(عليها السلام)هي من حيث أنها المبلّغ الأول لبعثة النبي عيسى وشريعته المسيحية، حيث أنها أمرت من قبل الله تعالى بتحمل مسؤلية الانجاب بطريقة المعجزة من دون فحل ليمهد الطريق لبيان المعجزة لنبوّة عيسى وشريعته، ثم أمرت من قبله تعالى بحمله والمجيء به الى بني اسرائيل وأن لا تكلمهم وأن تشير اليه ليستنطقوه فيتكلّم في المهد فهي قد قامت بكل هذه المسؤوليات الموظفة من قبله تعالى لها لتبليغ واظهار المعجزة الاولى على نبوّة عيسى(عليه السلام) وكان ذلك عن اعتقاد منها بنبوة عيسى بتوسط ما أوحي لها من دون وساطة النبي زكريا أو غيره من الانبياء في زمانه، فهي ابتدأت بابلاغ شريعة جديدة من دون أخذ هذا الامر الالهي ذو الشأن العظيم الخطير من نبي ولا رسول ولا بوساطة النبي عيسى أيضاً، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ... 1 فلولا حجية مريم وحجية ما يوحى اليها لكان بامكانها ابطال المعجزة الالهية وهي ولادة عيسيى من دون أب، بأن تدعي ـ والعياذ بالله ـ أنه لقيط وجدته في الطريق أو أنها ولدته عن زوج غائب أو ما شابه ذلك، فانظر الى مقام كمال حجيتها ودورها في ابلاغ الرسالة في قوله تعالى ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ 6. فهذاالنمط من المجاهدة والمخاطرة بالعرض بأمر من الله تعالى وتعيين منه، فهو حكمة بالغة من الله تعالى في اختيار هذا النمط من الجهاد، بحيث لا يتأدى اقامة الدين إلا بذلك من دون تدنس وابتذال في العِرضْ ولا زوال لطهارته وعصمة مناعته، وانّما هي مخاطرة ظاهرية بالسمعة، وهذا نظير ما وقع لعترة النبي(صلى الله عليه وآله) بعد واقعة كربلاء المفجعة، حيث كان فضح بني أمية وزيغهم، عن الدين وعدائهم لصاحب الرسالة لا يتم إلا بالمخاطرة بعيالات النبوة وتعريضهم للسبي من قبل بني أمية، ووقوف عقيلة بني هاشم وخفِرة الطالبيين في مجلس الطاغية ابن زياد ومجلس يزيد والقاء خطبها لبيان حقانية سيد الشهداء(عليه السلام) وبطلان بني أمية وحزبهم.

اذن فما جرى للسيدة مريم (عليها السلام) من المخاطرة بحرمتها وقدسيتها قد جرى على حرمة وقدسية فاطمة(عليها السلام) اذ خاطرت بحرمتها وقدسها في الذب عن امامة علي(عليه السلام) وذلك بالتصدي للمهاجمين على بيته(عليه السلام)، فكان في ذلك فضح لكل ستار يتخفى من ورائه أصحاب السقيفة لغصب الخلافة وتحريف مسيرتها في الامة، ومن ثَم أحس الخليفة الاول بانتصار قضية علي(عليه السلام) في الامامة، وادحاض دعواه وصحبه فلم يمسك غيضه حتى تكلم بهجين الكلام وهو على منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما نقل ذلك ابن ابي الحديد 7.

فبلوغ مريم الى مراتب الحجية كان سبباً في تأسيس الشريعة العيسوية واكتمالها.

كما أن حمل المولود المعجزة والمجيء به الى قومها تُعد احدى أخطر مهامها وأصعبها تحمّلاً فهي مجاهدة ومخاطرة بالعِرض وهو أشد للغيارى من قتل النفس. اذ لم يكن من اليسير أن تتحمل أقدس عفيفة في زمانها مسؤولية التهمة والبهتان ومحاولة تحدي أمّة لم تصل الى مستوى الرشد، بل لازالت في حضيض الجهل والسوء فكانت معاناتها النفسية مما هي فيه من الاستحياء ومخافة اللوم ما ادّى بها الى تمني الموت ﴿ ... قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا ... 8 قال ابو عبدالله الصادق(عليه السلام): "لأنها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزّهها من السوء"9 مما يكشف شدة معاناتها ووطأة المهمة الملقاة على عاتقها، الا أن ذلك لم يفتَّ في عضدها، ولم يحبط همّتها، ولم يزعزع تسليمها وانصياعها وطاعتها لله تعالى ولأمره شعرة، بل ذهبت مع ما فيها من آلام التوجسات والخواطر، تحمل ولدها المعجزة لتثبت بكل تسليم واقتدار تحمّل المسؤولية المباركة، ويكشف في الوقت نفسه ما وصلت اليه من الاكتمال في التسليم والانصياع وتحمل المسؤولية من حين تحديثها الملائكة وقبولها لذلك، ولم يصدر منها أدنى تردد أو اعتذار لقبول المهمة، مما يعني بكل تأكيد كونها طرفاً مهماً في بلوغ الرسالة العيسوية هذا المبلغ من الاقتدار على تحدي طغام بني اسرائيل ولئامهم وزحفها مخترقة كل حواجز اليهودية المتربصة لرسالات السماء.

فتلخص:

أولاً: أن الذي بدأ بإبلاغ بعثة النبي عيسى هي مريم(عليها السلام) وهو نمط فريد في بعثة الرسالات الالهية أن يكون الحامل الاول للبعثة هي امرأة.

ثانياً: انّه يدلل على كمال ايمان مريم بما اوحى لها من الاوامر الالهية من دون توسط نبي فيما بينها وبين الله تعالى.

ثالثاً: انّه يدل على حجية الوحي للمرأة المصطفاة المطهرة، ولو قدّر ـ العياذ بالله ـ أن مريم لم تؤمن بما اوحي اليها ولم تمتثل ما أمرت به مباشرة لكان في ذلك إحقاق للمعجزة الالهية على نبوّة عيسى وبعثته بديانة ناسخة لشريعة موسى(عليه السلام)، أي ولادته من غير أب، فمن ثم كانت عصمة مريم وانها من الصفوة المنتجبة للحجية على العباد آية الهية مع إبنها، على حقانية بعثة ونبوّة وشريعة النبي عيسى(عليه السلام) في زمانه، فمن ثَم جُعلت من أصول الديانة والشريعة العيسوية كما قال تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ... 1 بل هذه الآية الالهية واجبة الاعتقاد في الشريعة الاسلامية لوجوب الاعتقاد بكل آيات الله وكلماته وكتبه ورسله، وسيأتي نظير هذا المقام للزهراء(عليها السلام) حيث احتج الله تعالى بها على حقانية نبوّة سيد المرسلين وبعثته وشريعته كما في آية المباهلة، واعطاها الله تعالى مقام ودور صاحب الدعوة للدين من قبله تعالى، وأن الخمسة أصحاب الكساء صادقون فيما يبلغونه عن الله تعالى من شريعة الاسلام ونبوّة سيد الرسل.

كما أن حجية مريم(عليها السلام) اصلاً من أصول الديانة المسيحية، اذ كونها هي وابنها آية، أي حجة يجب على معتنقي المسيحية التسليم لها وقبولها والاعتقاد بها فهي المتمم لحجية عيسى ورسالته.

فنرى أن القرآن الكريم في السور العديدة لا يدحض اعتقاد المسيحيين والنصارى في جعلهم مريم وعيسى كليهما من أصول الاعتقاد والديانة بل يدحض تأليههم لهما، فلا يخطّئهم في كونهما من أصول الدين بل غاية الامر أنه يحدد غلوهم الذي هو في تأليههم في مريم وعيسى، فيؤكد القرآن على بشريتهما مع تصريحه بكونهما معاً آية وحجّة.

قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... 10 وقوله تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ... 11 12.