الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

خطبة المتقين(3-3)

ثمّ يتابع أمير المؤمنين كلامه من أوصاف المتقين، ويتحدث عن شؤونهم في النهار وكيف حالهم فيه، وما هو ديدنهم معه فيقول (عليه السلام): (.... وأمّا النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول: قد خولطوا ولقد خالطهم أمرٌ عظيم....).

فالمتقي هو الحليم الذي يحسن إدارة الأمور فلا يغضب لأتفه الأمور ولا ينفعل ولا يخرج عن حالة الإتزان في قوله وفعله ويستوعب الآخرين بصبره وحكمته وهو العالم الذي لا يدخل في شىء إلا إذا عرف من أين أو إلى أين ينتهي ويدرك العواقب والنتائج التي تترتّب على ما يعلم فإنّ كان ممّا يرضي الله قام به، وإن لم يكن ممّا يرضي الله تركه واستغني عنه، ولهذا تراهم يحتاطون في التعامل مع الأمور فلا يتسرّعون ولا يسمعون لأنفسهم أن تمنعهم من تسخير ما يعلمون لأجل ما يعملون.

ولأجل ذلك المسار المنضبط الذي يلتزمون به كنهجٍ ثابت في حياتهم ترى الآخرين ينظرون إليهم فيتخيلون أنّهم مرضى أو أنّهم من الأشخاص الذين قد أصابهم مس من الجنون أو ما شابه ذلك، بينما حقيقة الأمر هي أنّه الخوف الشديد من الله سبحانه وتعالى الذي ملأ عقولهم وقلوبهم هو الذي أوصلهم إلى تلك الحالة التي تجعلهم يتعاملون مع كلّ شىء بخوفٍ وحذر شديدين مخافة أن يكون هناك شىء لا يرضي الله أو يجعله عزّ وجلّ غاضباً منهم،ولهذا فلا يفهمهم أولئك الذين لم يصلوا إلى ذلك المستوى الإيماني الرفيع الشأن نتيجة المعرفة بالله عزّ وجلّ ولأجل ذلك يكمل أمير المتقين وصفهم فيقول عنهم:(قد أحيا عقله وأمات شهوته وأطاع ربّه، وعصى نفسه... فأبان له الطريق وسلك به السبيل....).
ولهذا السبب لا يشعر الناس الآخرون بثقل وجوده عليهم أو بينهم لأنّ شرّه مأمون وخيره موقور يبذله لمن هو بحاجة إليه، فهو لا يعتدي على الناس بفعلٍ أو بقول فلا تصدر بالتالي عنه ألفاظ الفحش والبذاءة بل يتعامل مع الآخرين بلين الكلام وسلاسة الخطاب تماماً، كما يقول القرآن: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... 1 أو ﴿ ... وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... 1 وهو مع ذلك صادق اللهجة والقول، لأنّ الصدق من شيم المتقين وعلامات الخائفين الوجلين، ولأنّه يعلم بأنّ الله يكره الكذب والكاذبين.
ثمّ يتابع أمير المتقين(عليه السلام) الكلام فيقول:(..... هو في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب....) وهذه بعض من الصفات التي لها آثارها ة ومردوداتها الإيجابية على المتقي في الدنيا والآخرة، فقوة علاقته بالله عزّ وجلّ تجعله لا ينهزم عند صعاب الأمور فيبقى محافظاً على وقاره وهيبته واحترام نفسه، وكذلك لو أصابه مكروه من فقد ولد أو مال أو إذا حلّ به مكروه فهو الصابر المحتسب ما أصابه عند الله طمعاً بما عنده، وإذا أنعم الله عليه فهو لا يبذّر أو يسرف بل يتصرّف في كلّ ذلك بمسؤولية وأمانة ويضع تلك النعمة في موضعها الصحيح من حياته، وإذا حصل بينه وبين أحد خصام أو نزاع فهو يقتصر على بيان ما له من حق، ويقف عند حق غيره،فلا يظلمه إياه أو يغصبه حقه، وإذا كان له علاقة مودة وصداقة مع أحد فإنّه لا يسمح للصداقة تلك أن تجرّه إلى اتّخاذ مواقف مؤيّدة لصديقه على حساب دينه وإيمانه وتقواه.
بعد كلّ هذا يقول أمير المتقين(عليه السلام) بأنّ المتقي هو: (المؤمن الكيّس الفطن، بُشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شىء صدراً، وأذل شىء نفساً) وأخيراً ينهي الأمير كلامه فيقول بأن: (أولئك شيعتنا وأحبتنا، ومنّا ومعنا) فهل نحن كذلك كما يصفنا أمير المؤمنين (عليه السلام) إن كنا كذلك فهذا أمر جيد وإن لم نكن بهذا المستوى فعلينا أن نسعى لنصل إلى ذلك المستوى حتى نكون من المقتدين والمهتدين بهدي أمير المؤمنين ومولى المتقين(عليه السلام) وبهدي أبنائه الأئمة الطاهرين(عليهم السلام).... والحمد لله ربّ العالمين2.