الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

دور العبادات في السلوك الاجتماعي

من المتّفق عليه عند علماء العقيدة الإسلامية أنّ الله بعث الأنبياء (عليهم السلام) لهدفين يختصر كلّ منهما الحياة الإنسانية بما تضجّ به من حركةٍ ونشاط وهما:

  • الأول: هداية الإنسانية إلى وجود الخالق وتوحيده وعبادته
  • الثاني: بناء الحياة الإنسانية وفق الضوابط الإلهية

أمّا الهدف الأول وهو الهداية فالمراد منه أن يعرف الإنسان أنّ له خالقاً وأنّه لم يوجد من تلقاء نفسه، وأنّ الله قد خلق الإنسان من أجل أن يعبده ويتوجّه إليه ويطلب العون والمدد منه لكي يستطيع أن يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى الآخرة بطريقةٍ ينجو بها عند الله ويستحقّ من خلالها دخول الجنة والتمتّع بنعيمها الخالد.

وأمّا الهدف الثاني وهو بناء الحياة الإنسانية فهو عبارةٌ عن أن يعمل الإنسان على الإستفادة من كلّ ما سخّره الله لعباده من أجل العمل في الدنيا بالطريقة التي تناسب البشر على أن يعيشوا الحياة بأمنٍ وسلام واطمئنان ويعينهم على المحافظة في أن يسيروا في خطّ الطاعة لله عزّوجل.

والهدف الأول وهو العبادة كما تشير إليه الآية الكريمة:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 1 فهو يشمل كلّ حركة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لأنّ الإنسان كلّه لله، سواء كان فعله ممّا يحتاج إلى نية القربة ليكون من العبادة بالمعنى الخاص أو لم يحتج إليها، لأنّ الإسلام لا يميّز بين ما يحتاج إلى نية القربة وما لا يحتاج ليكون عبادة بالمعنى العام، لأنّ مقولة "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"لا وجود لها عندنا في الإسلام، لأنّ ما لله فهو لله وما كان لقيصر فهو لله أيضاً، وهذا ما يعطي الأفضلية للإسلام على غيره من الأديان السماوية التي لم تبق على صفائها ونقائها بل تعرّضت للتحريف والتزييف وخرجت عن أهدافها المرسومة من جانب الله عزّوجل.

وبهذا يتبيّن أنّ العبادة بالمعنى الخاص ونظام العبادات المتقوّم بالتقرّب إلى الله والإمتثال لأمره والذي يشمل الصلاة والصوم والحج والزكاة والطهارات هو النظام الذي شرّعه الله لبني البشر من أجل الإرتباط به والتوجّه إليه من خلالها وهي لها أهدافها في التخطيط الإلهي الدقيق، حيث نرى أنّ لكلّ عبادة من نظام العبادات بالمعنى الخاص لها هدف محدّد وواضح، ولذلك يقول القرآن الكريم:﴿ ... إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... 2، وعن الصوم:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ 3 وعن الحج يقول:﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ... 4، وعن الزكاة يقول:﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ... 5.

وفي الحديث الشريف ورد: (بني الإسلام على خمس على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، وما نودي بشيء كما نودي بالولاية)6.

إذن فإن النهي عن الفحشاء والمنكر والتقوى والبراءة من المشركين والتزكية والتطهير هي الأهداف المرجوّة من نظام العبادات بالمعنى الخاص.

وإذا نظرنا إلى كلّ هدفٍ من هذه الأهداف نرى أنّ بينها اختلافاً في المعنى الخاص بكلّ لفظ، ولكن هناك توافق في المعنى الكلّي الجامع بينها.

فالنهي عن الفحشاء والمنكر معناه الإبتعاد عن كلّ الأفعال السيّئة وعن الذنوب الكبائر منها وغيرها، لأنّ ارتكاب الفواحش والمنكرات يميت القلب ويذهب الإنسان بعيداً عن الله عزّوجل ويسبب اسوداد القلب وموته، وهذا ما يجعله بعيداً عن الرجوع إلى خطّ الهداية والطاعة.

والتقوى هي عبارة عن الملكة النفسانية الباعثة على طاعة الله وامتثال أمره ونهيه والإلتزام بكلّ ما طلب الله من الإنسان أن يفعله في هذه الحياة الدنيا.

والبراءة من المشركين هي عبارة عن إعلان الرفض المطلق والقاطع بعدم عبادة غير الله كائناً ما كان ومن كان، ومعناها أن يعبد الإنسان الله وحده مهما اختلفت الظروف والأوضاع ومهما تعرّض الإنسان للترغيب أو الترهيب فهو لن يخضع ولن يعبد إلاّ الله سبحانه.

والتزكية والتطهير الناتجان عن الزكاة تفيد أنّ الإنسان غير طامح بمقام هذه الدنيا، وإنّما يريد منها فقط ما يوصله إلى الله عزّوجل من دون تمسّك بها وبزخارفها وزينتها ومباهجها ومفاتنها، وهو حاضر لبذل المال الكثير وغيره لتزكية نفسه وتطهيرها من دنس المال الذي قد يجعل من الإنسان عبداً له عندما يجعله هدفاً في حياته وغاية لعمله.

إذن فالمعنى الكلّي الجامع بين أهداف هذه العبادات هي الطاعة لله التي تعني أن يسير الإنسان في هذه الحياة الدنيا سيراً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف عن الصراط المستقيم، وهذا يشمل كلّ جوانب حياة الإنسان في تعامله مع الناس الآخرين.

وهذا يعني أنّ نظام العبادات بالمعنى الخاص مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالسلوك الإجتماعي للإنسان فرداً وجماعة ولا يمكن التفريق بينهما من وجهة نظر الإسلام الذي يظهر أنّ حياة الإنسان كلّها وبكلّ أبعادها الدينية والدنيوية هي لله عزّوجل.

وقد ورد في الحديث الشريف: (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه)7، وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام) قال له: (يا علي أفضل الجهاد من أصبح لا يهم بظلم أحد)8، وفي حديث قدسي ورد عن لسان ابي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال الله تعالى: (إنّما أقبل الصلاة لمن تواضع لعظمتي ويكف نفسه عن الشهوات من أجلي، ويقطع نهاره بذكري، ولا يتعاظم على خلقي، ويطعم الجائع، ويكسو العاري، ويرحم المصاب، ويؤمن الغريب، فذلك يشرق نوره مثل الشمس أجعل له في الظلمات نوراً، وفي الجهالة حلماً أكلله بعزتي وأستحفظه ملائكتي، يدعوني فألبّيه، ويسألني فأعطيه، فمثل ذلك عندي كمثل جنات عدن لا يسمو ثمرها ولا تتغير عن مالها)9، وفي وصية أخرى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (يا علي: ثلاث من مكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة، أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلم عمن جهل عليك)10.

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال، وقوراً عند الهزائز، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرضاء، قانعاً بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إنّ العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل أمير جنوده، والرفق أخوه، والبر والده)11، وفي الحديث أنّ إعرابياً جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: علمني عملاً أدخل به الجنة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم، وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم)12.

من مجمل هذه الأحاديث يتبيّن أنّ السلوك الإجتماعي للإنسان المؤمن ينبغي أن يكون منسجماً مع نظام العبادات بالمعنى الخاص، لأنّه من لا يصلي ولا يصوم ولا يخرج حقّ الله من حاله، لن يتورّع عن أذى الناس والتطاول عليهم والتعدّي والظلم لنفسه ولغيره، وسيكون مبغوضاً عند الله والناس ويتمنون أن يرتاحوا منه ومن أمثاله ممّن يُفسدون على الناس حياتهم وأمنهم وسلامتهم، لأن أمثال هؤلاء التاركين للعبادات لا يتورّعون عن أن يعيثوا في الأرض الفساد لأنّهم يحملونه في ذواتهم وأرواحهم وأنفسهم.

ومن لا يلتزم بنظام العبادات فهو مهيء لأن يكون سيئ الخلق لعدم وجود الحصانة الإيمانية والروحية المستقاة من الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات، وسوء الخلق من أكثر الرذائل إفساداً للنفس وللمجتمع وقد ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)13، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(من ساء خلقه عذب نفسه)14، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله لعلي (عليه السلام): (يا علي لكلّ ذنبٍ توبة إلاّ سوء الخلق، فإنّ صاحبه كلّما خرج من ذنب دخل في ذنب).

ولذا نرى في الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة المديح والثناء على حسن الخلق ومن يتزيّن به من الناس، والملتزم دينياً هو أقرب الناس إلى التزيّن بهذه الصفة الأخلاقية الحميدة التي ينتج عنها السلوك الإجتماعي المتّزن والمتوازن الذي يشيع الأمن والسلام في المجتمع فضلاً عن أنّ حسن الخلق صفة أساسية ينتج عنها الرفق بالناس والرحمة لهم ومساعدتهم بكلّ أنواع البر والخير ورفع المعاناة عن الفقراء والضعفاء والمساكين، وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (عليكم بحسن الخلق فإنّ حسن الخلق في الجنة لا محالة)15.

وبالجملة فإنّ الملتزم بنظام العبادات إلتزاماً واقعياً وحقيقياً يدلّ على أمورٍ عديدة ايجابية ترتبط بالسلوك الإجتماعي للإنسان ومن أهم دلالات ذلك أنّ الملتزم بالنحو الذي ذكرنا لا يحسد ولا يحرص على الدنيا ولا يغتاب ولا يسعى للرئاسة بمعناها السلبي وهو التسلّط على الناس وأموالهم وأعراضهم وما سوى ذلك، ويبتعد عن التكبّر والتجبّر وكراهية الناس ولا يكون قاسي القلب ولا مانعاً للخير والمعروف، ويكون من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يغضب ولا يطمع في هذه الدنيا ولا يفتتن بها ولا يرغب فيها، ولا يكون ممن يعين الظالمين على ظلمهم للناس ولا يرضى بالظلم من أصله، وبعبارة مختصرة فالملتزم يبتعد عن رذائل الأخلاق وعن كلّ المفاسد وكلّ أنواع الظلم.

وبالمقابل فهو يتجلّى بكلّ الأخلاق الحميدة من الصدق والأمانة وثقة الآخرين به ويكون من المصلحين بين الناس ويسعى جاهداً للقيام بكلّ أنواع الخير والمعروف للمحتاجين، والملتزم يكون زاهداً في هذه الدنيا لا يملك شيئاً من حطامها ولو ملك منّها كلّ شيء، ولذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّ من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا)16، ولذا ورد في الرواية أنّه أتى رجل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له: (إني لا ألقاك إلاّ في السنين فأوصني بشيء حتى آخذ به، فقال (عليه السلام): أوصيك بتقوى الله والورع والإجتهاد، وإياك أن تطمح إلى من فوقك، وكفى بما قال الله عزوجل لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربّك خير وأبقى، وقال: ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، فإن خفت ذلك فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّما كان قوته من الشعير، وسلواه من التمر، ووقوده من السعف إذا وجده، وإذا أصابتك مصيبة في نفسك أو مالك أو ولدك فاذكر مصابك برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ الخلائق لم يصابوا بمثله قط)17.

من كلّ ذلك نقول إنّ حياة الإنسان بكلّ أبعادها الدينية والدنيوية مترابطة بلا انفكاك بينها، بل الأمر كما في الحديث عن المعصومين: (إعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً)18.

وهذا الحديث يختصر المهمتين الأساسيتين اللتين بعث الله أنبياءه من أجل تحقيقهما في هذه الحياة.

من هنا نؤكّد على ضرورة أن يكون الملتزم بالعبادات ذا سلوك اجتماعي راقٍ وأن يكون عاملاً مساعداً في إصلاح الناس والمجتمع كما دلّت على ذلك الآيات والروايات وسلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين هم القدوة الصالحة والعظيمة التي جسّدت الإسلام بكلّ مفاهيمه وأبعاده خير تمثيل، وأعطونا بسيرتهم وحياتهم المثل الأعلى والنموذج الأرقى للإنسان المسلم المؤمن الملتزم، الذي يصلّي ويصوم ليخدم الناس ويتجلّى بالأخلاق الحسنة ويعبد الله من خلال ذلك.

والحمد لله ربّ العالمين18.