مجموع الأصوات: 16
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 1506

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

سنّة الابتلاء والاختبار من سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم

لقد أشرنا في ما سبق إلى أنّ سنّة الحقّ الكونيّة الشاملة للمجتمع الإنسانيّ- مقرونة بما شاءه الله للإنسان الّذي اختاره خليفة له على الأرض من أن يكون مختاراً، مريداً تقرير مصيره بنفسه، ويختار سبيل حياته بإرادته- اقتضت أن يكون التطوّر التاريخيّ في المجتمع الإنسانيّ تطوّراً موجّهاً، ينتهي إلى النقطة الّتي يختار الإنسان فيها بملئ إرادته مجتمع العدل المنقاد للقيادة الإلهيّة العادلة، وبذلك تتحقّق الغاية المطلوبة في حركة التطوّر الاجتماعيّ، وتبلغ سنّة الحقّ الكونيّة غايتها في المجتمع الإنسانيّ.

وقلنا إنّ هذه المسيرة الصاعدة إنّما تبلغ غايتها من خلال سنن إلهيّة تحكم التطوّر التاريخيّ للمجتمع الإنسانيّ، وتوجّهه نحو الغاية المنشودة، وكانت سنّة الاستخلاف من أهمّ هذه السنن الإلهيّة الّتي تحكم حركة التطوّر الاجتماعيّة في تاريخ الإنسان.

غير أنّ سنّة الاستخلاف، لكونها سنّة موجّهة- كما هو الحال في عامّة السنن الاجتماعيّة الإلهيّة الّتي تحكم حركة التطوّر الاجتماعيّ- فهي مقرونة بسنن أخرى، مساهمة في هذا التوجيه، أهمّها وألصقها بسنّة الاستخلاف هي «سنّة الابتلاء والاختبار».

والّذي تعنيه هذه السنّة هو أنّ الاستخلاف الإلهيّ للإنسان ليس استخلافاً عشوائيّاً أو اعتباطيّاً، بل هو استخلاف استحقاقيّ يُهيَّؤُ له الإنسان الّذي يراد استخلافه من خلال سنّة الابتلاء والاختبار.

فسنّة الابتلاء والاختبار هي سنّة موجِّهة للتطوّر الاجتماعيّ، تقوم بدور استثارة مواهب الإنسان المرشّح للاستخلاف الإلهيّ، وطاقاته المخزونة، لتجعل منه الإنسان الكفوء، القادر على تحمّل أعباء الأمانة الإلهيّة، النافض من نفسه غبار الاسترخاء والخلود إلى الأرض، والرافض للظلم والجهل، اللّذَيْن يحولان دون استحقاقه للخلافة الإلهيّة، وتسلبانه الكفاءة على تحمّل الأمانة الإلهيّة، وتجعله يتحلّى بدلًا عن ذلك بالعدل والعلم، اللّذَيْن يبوّءانه المبوّء الصالح للخلافة الإلهيّة.

وقد أشير إلى العنصرين اللّذَيْن يحولان دون تأهيل الإنسان لحمل الأمانة الإلهيّة في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ 1.

والاستخلاف الإلهيّ يعني- كما أشرنا سابقاً-: تَبَوُّء الإنسان موقع الإمامة القائدة لإقامة العدل الكونيّ في عامّة أرجاء الأرض، ولقد قلنا في ما سبق: إنّ الإمامة والاستخلاف الإلهيّ على نوعين: «إمامة فرديّة»؛ تعني: استخلاف الفرد لقيادة البشريّة في طريقها لإقامة المجتمع العادل، و «إمامة جماعيّة»؛ تعني: إمامة المجموعة الطلائعيّة الّتي تقود الأمم الأخرى في سبيل تأسيس الحضارة الكونيّة الفضلى، وإقامة المجتمع العالميّ العادل في ظلّ دولة الصالحين. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 2

ولكلّ من هذين الاستخلافين (الاستخلاف الفرديّ، والاستخلاف الجماعيّ) مراحل إعداديّة، يتهيّأ الإنسان من خلالها لتحمّل أعباء الخلافة الإلهيّة، وهذه المراحل الإعداديّة هي الّتي نعبّر عنها بسنّة الابتلاء والاختبار.

وقد أشار الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلى تنفيذ سنّة الابتلاء على مستوى الاستخلاف الفرديّ، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى بشأن إبراهيم عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام:

﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... 3.

ومن أهمّ هذه الكلمات الّتي ابتلي بها إبراهيم (ع) رؤياه الّتي رأى فيها أنّه يذبح ابنه، فقد عبّر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن هذا الابتلاء «البلاء المبين»؛ إذ قال:

﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ 4.

ومن خلال هذا الابتلاء- وأمثاله من الكلمات الّتي ابتلى الله بها إبراهيم- تَمَّ تأهيل إبراهيم (ع) لموقع الإمامة العامّة، والخلافة الإلهيّة الكبرى. وهكذا، تمّ تأهيل غيره من الأئمّة الصالحين، وخلفاء الله الأبرار؛ كما أشار الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلى ذلك في قوله:

﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ 5.

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ 6.

﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ 7.

هذا في ما يخصّ الابتلاء التأهيليّ للخلافة الفرديّة، وأمّا على مستوى الابتلاء التأهيليّ للجماعة الطلائعيّة المؤمنة، والّذي يتمّ من خلاله تأهيلها، وإعدادها للاستخلاف الجماعيّ، ثمّ الإمامة الجماعيّة لأمم الأرض الأخرى، وقيادتها نحو المجتمع الأمميّ العادل الّذي يشمل سكّان الأرض كلّهم بإمامة الصالحين، فقد أشار الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في كثير من آياته إلى سنّة الابتلاء الجماعيّة هذه، فقال:

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ 8.

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 9.

و «ثواب الدّنيا» هنا- كما يبدو- هو استخلافهم في الأرض، وتمكينهم فيها لإقامة العدل؛ كما أشار إلى ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ ... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ 10.

وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى أيضاً- في إشارة إلى سنّة الابتلاء الجماعيّة الّتي مرّ بها بنوإسرائيل-:

﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ 11.

﴿ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ 12.

وقد أكّد القرآن الكريم أنّ سنّة الابتلاء الجماعيّة عامّة شملت وتشمل جميع الأمم الّتي يراد استخلافها في الأرض بدءً من امّة نوح عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام وانتهاءً بامّةِ محمّد خاتم النبيّين (ص)، فقال في إشارة إلى ابتلاء الأمّة الطلائعيّة الأولى- أي أمّة نوح-:

﴿ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ 13.

وقال بشأن أمّة محمّد (ص) خاصّة:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ 14.

﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ 15.

وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى مشيراً إلى سنّة الابتلاء العامّة الشاملة لكلّ أمم الأرض الّتي يراد تأهيلها لاستخلاف الأرض:

﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ 16.

ثمّ إنّ سنّة الابتلاء هذه- كما ألمحنا سابقاً إنّما تتمّ ضمن مرحلتين: الأولى: مرحلة ما قبل التمكين، والثانية: مرحلة ما بعد التمكين. والابتلاء ما قبل التمكين يؤهّل الأمّة للاستخلاف في مرحلته الأولى؛ وهي: تمكين المجموعة المؤمنة من السلطة، واستخلافها لإقامة العدل على نفسها في ظلّ القيادة الإلهيّة؛ قيادة الإمام المستخلف من الله لقيادة الناس، وإقامة العدل على وجه الأرض. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... 17.

﴿ ... وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ... 18.

وقد وفّقت الأمّة الإسلاميّة في مرحلة الاستخلاف الأولى، ونجحت في الابتلاء التأهيليّ لقيام مجتمع عادل، تحكمه سلطة عادلة، مكّنها الله في الأرض، فنصرت رسول الله (ص)، ونصرها الله، حتّى استقرّت السلطة العادلة بقيادته (ص)، وبهذا، استحقّت الوسام الإلهيّ حين وصفها بأنّها «خير أمّة أُخرجت للنّاس»؛ فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... 19.

﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... 20.

وهكذا، خرجت أمّة الرسول (ص) بنجاح من الدورة التأهيليّة الأولى؛ وهي: دورة الابتلاء ما قبل التمكين، فاستحقّت بذلك التمكين الإلهيّ، ووهبها الله لها هذا التمكين، واستخلفها في الأرض؛ لكي تواصل مسيرتها في اتّجاه المرحلة الثانية من الاستخلاف الإلهيّ الّذي وعدها الله بها؛ إذ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ... 21.

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 2.

﴿ ... إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 22.

﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ... 23.

وكما هو واضح من هذه الآيات، فإنّ الوعد الإلهيّ الّذي تضمّنته هذه الآيات، ليس هو التمكين الإلهيّ بإقامة دولة إسلاميّة صالحة على مساحة محدودة من الأرض، كالّذي تحقّق بالفعل في عصر الرسول (ص)، ومن بعده في عصر الأئمّة من خلفائه الصالحين، وإنّما الوعد الإلهيّ الّذي أصحرت به هذه الآيات هو: «أن يُظهر دينه على الدِّين كلّه»، و «أن يرث عباد الله الصالحون الأرض كلّها»، و «أن يحكم المتّقون الأرض بكلّ رحبها»، و «أن يُستخلف المؤمنون العاملون بالصالحات، في الأرض استخلافاً يتمكّنون فيه من إقامة الدين الإسلاميّ عليها بمشارقها ومغاربها».

وهذه غاية لم يقدَّر لها أن تولد، وأن تبصر الوجود حتّى اللّحظة الّتي نحن فيها؛ فهي مرحلة قادمة، عبّرنا عنها بالمرحلة الثانية من الاستخلاف الإلهيّ، وهي أهمّ وأوسع بكثير من الاستخلاف الإلهيّ الأوّل. وبطبيعة الحال، فهي تستدعي دورات تأهيليّة أصعب بكثير من الدورة التأهيليّة الأولى الّتي تأهّلت فيها المجموعة المؤمنة بالإسلام، وبقيادة رسول الله (ص) للاستخلاف الجزئيّ المحدود الخاصّ بمنطقة معيّنة من الأرض؛ هي الجزيرة العربيّة، وما والاها.

فلم يكن بدّ- وفقاً لسنّة الابتلاء الإلهيّة- أن تخوض الأمّة غمار مرحلة قاسية من الابتلاء، تؤهّلها للقيام بدور الأمّة القائدة لسائر الأمم في إقامة مجتمع السلام والعدل العالميّ الّذي يعمّ مشارق الأرض ومغاربها، وبها يتحقّق وعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بوراثة الصالحين للأرض.

وهكذا كان، فقد دخلت الأمّة بعد رحيل رسول الله (ص) دورات قاسية وشديدة من الابتلاء الجديد الّذي وعدها الله به؛ إذ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ 24.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 25.

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ 26.

﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ 27.

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 28.

هذه الآيات وأمثالها صريحة في أنّ سنّة الابتلاء في أمّة محمّد (ص) مستمرّة حتّى بلوغها المرحلة الّتي يتميّز فيها المؤمنون المخلصون عن المنافقين، والانتهازيين، والمصلحيّين، من أتباع الدنيا، وضعفاء الإيمان، والمستأكلين بالدّين. وعندما يتحقّق التمييز الكامل، والإفراز التامّ بين المجموعة المؤمنة الصالحة الّتي تثبت على إيمانها في جميع مراحل الابتلاء والاختبار، وبين العناصر المنافقة والمصلحيّة الانتهازيّة، ويتبيّن إخلاص المجموعة المؤمنة، ووفاؤها بالعهد مع الله ورسوله على الصعيد العمليّ، وبعد الاختبار الدقيق، عندئذٍ يأتي دور الاستخلاف الثاني؛ وهو الاستخلاف النهائيّ الّذي يتمّ معه إظهار الدين الإسلاميّ على الدّين كله، ويتحقّق الوعد الإلهيّ بوراثة الصالحين من أمّة محمّد (ص) لجميع الأرض؛ كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 2.

والّذي يحدّثنا به واقع التاريخ الماضي للمجتمع المنتمي إلى‌ الإسلام رسميّاً، أنّ هذه المجموعة فشلت- وللأسف- في المرحلة الثانية من سنّة الابتلاء؛ أعني: مرحلة ما بعد التمكين، فلم تستطع أن تجتاز مراحل الاختبار التأهيليّ لمرحلة الاستخلاف الكبرى (المرحلة الثانية) بنجاح، بل أصابها من الضعف والفتور والانصياع للأهواء والشهوات وحبّ الدّنيا مثل ما أصاب بني إسرائيل، وهو ما كان قد أخبر به رسول الله (ص) حين أخبر عن مستقبل مظلم لأمّته يرتدّ فيها الكثيرون عن دينه، ويفشلون في الاختبار الإلهيّ الّذي لا مفرّ منه، وفقاً لسنّة الابتلاء الإلهيّة الّتي لابدّ منها في تأهيل الأمّة للاضطلاع بمهمّة الاستخلاف الكبرى، وقيادة أمم الأرض، لإقامة المجتمع العالميّ العادل على وجه الأرض.

ولقد أصاب بني إسرائيل الذّل والفرقة بعد فشلها في اختبار الله لها في إيمانها وثباتها على طاعة الله ورسوله، وهو نفس ما أصيبت به أمّتنا من سوء الحال الّذي يشهد له ماضينا القريب، كما يشهد له الواقع المأساويّ الّذي تعيشه أمّة الإسلام في حاضرها من الذّلّ أمام أعدائها، وانقسامها على نفسها، وهوانها على أعدائها، واستباحتهم لها في أنفسها، وأموالها، وأرضها، ودارها، وثقافتها، وهويّتها، حتّى عادت الأمّة الّتي كان قد أعزّها الله بدينه ورسوله (ص)، أذلّ أمم الأرض جانباً، وأضعفها مناعة، وأرخصها دماً، وعرضاً، ومالًا.

ثمّ إنّ الابتلاء ما بعد التمكين على نوعين:

الأوّل: الابتلاء المادّيّ؛ وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ 29.

الثاني: الابتلاء المعنويّ؛ وهو الفتنة في الدّين، وتحريف نصوصه في اللفظ والمعنى، وتحريف مفاهيمه تفسيراً وتطبيقاً. وقد أشار إلى ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ 26.

وقد مرّت الأمم السابقة- وخاصّة بنو إسرائيل- بهذين النوعين من الابتلاء:

أمّا الابتلاء المادّيّ‌ لبني إسرائيل، فقد أشارت إليه آيات كثيرة؛ منها: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ 30 إلى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ 31.

أمّا الابتلاء المعنويّ فأشير إليه- أيضاً- في آيات كثيرة؛ منها: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ 32.

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ * وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ... 33.

﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ 34.

وقد روى الرضيّ في نهج البلاغة أنّ رجلًا سأل أمير المؤمنين عليّاً (ع) عن الفتنة؛ فقال (ع):

«لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالى قوله:

﴿ ... الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 35

عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللَّهِ (ص) بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الّتي أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهَا فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي فَقُلْتُ ..» إلى قوله (ع): «قَالَ (ص): يَا عَلِيُّ! إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بَعْدِى بِأَمْوَالِهِمْ وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ وَ الْأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ ..» إلى آخر الحديث‌ 36.

وقد نصب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أنبيائه وأوصياءهم أعلاماً وهداة، يلجأ النّاس إليهم في الفتن، ويهتدون بهديهم في ظلمات الشبهات، ويقتدون بهم في غمار المحن الفكريّة، والالتباسات، والتلبيسات. وهكذا كان هارون، وأوصياء موسى في قوم موسى من بعده، والأئمّة الطاهرون من أهل بيت رسول الله بعد رحيله (ص)، فلو ثبتت الأمّة على هدى الأنبياء، واستقامت على طريقتهم، واتّبعت وأطاعت القادة الإلهيّين من أوصياء الأنبياء صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم استطاعت أن تخرج من غمار الفتن والابتلاءات فائزة، مفلحة، مرفوعة الهام، شامخة الرأس، فتنعم بنعمة الاستخلاف الإلهيّ الأكبر، وتحيى في ظلّ شريعة العدل الإلهيّ في عيش رغيد، وحظّ سعيد؛ كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 37.

لكنّ الأمم الّتي استخلفها الله الاستخلاف الأوّل؛ كأمّة بني إسرائيل، والمجموعة الأولى من أمّة محمّد (ص)، فشلت في مرحلة الابتلاء التأهيليّ لمرحلة الاستخلاف الأكبر، وتاهت في غمار الفتنة بعد النبيّ (ص)، ولم تتّبع هديه، ولا أطاعت القادة من أوصيائه وخلفائه، فجرى عليها قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ‌.

وهنا يأتي دور سنّة أخرى من سنن الله الاجتماعيّة، لتنفّذ بحقّ المجموعة المستخلفة بالاستخلاف الأوّل، بعد أن فشلت في مرحلة الاختبار التأهيليّ لمرحلة الاستخلاف الكبرى، والسنّة الأخرى هي «سنّة الاستبدال» 38.

 

للمزيد راجع كتاب سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم