الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

قوة المسلمين في حريتهم

إن الإنسان المسلم اليوم، لا يستطيع أن يمارس خصوصيته بكل جوانبها وأبعادها بدون حريته. فشرط ممارسة الخصوصية، هو أن ينال الإنسان المسلم حريته حتى يستطيع أن يوظف كل إمكاناته وقدراته، نحو العمران والتطوير.

فالمطلوب أن ينال الإنسان المسلم حريته، وهي لا توهب، وإنما هي بحاجة إلى جهد وجهاد، سعي وكفاح، تدرج وتواصل، حتى تتراكم تقاليد وآداب الحرية في المحيطين الفردي والجماعي. فقوة العرب والمسلمين في حريتهم، لأنها بوابة الوحدة والإجماع، كما هي الوعاء الذي يستوعب جميع الطاقات والقدرات. ويرتكب خطأ جسيما ذلك الإنسان أو المجتمع، الذي ينشد أن يجسد إحدى القيم الكبرى للإنسانية بدون الحرية والديمقراطية. فلا وحدة بلا حرية، ولا عدالة اجتماعية بدون حرية، ولا مساواة وتكافؤا للفرص بدون الحرية. فهي بوابة القيم الكبرى وإكسيرها الذي يمنح الحياة لكل قيم الصعود والتقدم والتطور.

فلتتوجه كل طاقاتنا وجهودنا، صوب إرساء دعائمها، وتوفير شروطها وتنظيم واقعنا ومجالنا السياسي والحضاري وفق هداها ومتطلباتها.

والحرية هي التي تعيد صياغة علاقتنا بمفاهيمنا وأفكارنا. فبدل أن تكون علاقة جامدة، اجترارية، سكونية، تتحول بالحرية إلى علاقة تفاعلية، تواصلية، ابتكارية. لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يصرح أن مهمة الإسلام الأساسية، هي إزاحة الأغلال والقيود التي تحول دون ممارسة الإنسان لحريته.. إذ قال تعالى ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 1.

لذلك نستطع القول: أن المنظومة المفاهيمية «المعيارية» في الإسلام، هي بحق تشكل إستراتيجية متكاملة في إرادة التحرر والانعتاق من كل السلط والديكتاتوريات التي تقف حائلا دون ممارسة حق العبودية المطلقة لله عز وجل وحده. قال تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ 2.

وعلى هدى هذه القيم والمبادئ، نخلق فضائنا الحر، ونمارس حريتنا وتعدديتنا، ونجسد حضورنا وشهودنا، ووقائع وحقائق الدفاع عن حريتنا وحرية غيرنا.

فالحرية لا تعني بأي حال التفلت من القيم ومحاسن العادات والأعراف الاجتماعية، وإنما تعني استخدام إرادتنا والتعامل مع راهننا بما ينسجم والمثل العليا والضمير والوجدان.

وإن حاجتنا إلى الحريات وسيادة قيم الديمقراطية في مجتمعاتنا، ليس نابعا من مقولة ضرورة التكيف مع الأوضاع العالمية وتوجهها نحو الديمقراطية، وإنما هو نابع بالدرجة الأولى من حاجتنا إلى هذه الحريات، ومن شوقنا الخالد والدائم للديمقراطية، بحيث تبدأ مجتمعاتنا مسيرة اجتراح تجربتها الديمقراطية وتجسيدها لقيم الحرية في دوائرها المتعددة.

فالمطالبة بالديمقراطية، والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن، ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية، بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلى هذه الحريات، حنى نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبرى التي نعاني منها، وتحول دون انطلاقتنا الحضارية.

فقيمنا ومبادئنا وواقعنا ومآزقه العديدة، هو الذي يدفعنا إلى القول بضرورة التزام الديمقراطية كخيار إستراتيجي سواء على صعيد السلطة ومؤسسات الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني.

إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه على مختلف الصعد، هي القادرة على تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة. وإن رفض هذا الخيار والنهج، يفاقم من العقد والأزمات، ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية، التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا.

وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية، هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها، وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة على جميع الصعد والمستويات.

ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية. فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية، دون قيمة الحرية، فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب، ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة.

فكاريزما جمال عبد الناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها، لم يلغ حاجتنا إلى الحرية. والأحداث والتطورات اللاحقة في التجربة الناصرية، أكدت حيوية هذه القيمة، بل إن ”الشعور الذي تولد لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد الهزيمة، والذي عبر عنه في مناقشات مغلقة ومفتوحة كثيرة. هو أن تحييد الجماهير وإقصاءها عن المشاركة في تشكيل القرار السياسي بالرأي  مهما كانت ثقتها في الصفات الاستثنائية لكاريزما عبد الناصر، ومهما كان اقتناعها بسلامة وصحة الاختيار أو القصد الوطني عند هذه الكاريزما  قد أسهم بشكل محسوس في إضعاف مركز القيادة السياسية، أمام مراكز القوى التي مارست صراعا على السلطة، استنزف قدرات هذا النظام، وعبث بمقدراته، ودفع به إلى هاوية الإخلال بأول واجبات أي نظام سياسي، ألا وهو الحفاظ على استقلال التراب الوطني“ «راجع عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية، ص 15».

مع الحرية والديمقراطية، يبقى مشروع الوحدة ممكنا، وبدونها يبقى واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما. ولا علاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوى والتعبيرات من المشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني. ومع الديمقراطية والحرية تبقى الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية.

وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص، وتتكور في دائرتها الخاصة. فيضيع الوطن الجامع، وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد.

وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلى فضاء الوحدة ومجال التوحيد، فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية، حتى تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية.

فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة، القادرة على إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام. وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات ومتطلبات القواسم المشتركة.

فالاندماج العام، لا يمكن أن يتم إلا على أرضية سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور. وبالتالي فإن عملية الاندماج منوطة في عناصرها الكبرى إلى الأغلبية، حيث بإمكانها عبر الخطوات السياسية الجادة والنوعية نحو الانفتاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية، أن تجعل المناخ العام مؤاتيا مع خيار الاندماج الوطني العام.

فالتقدم السياسي باتجاه الحريات، هو الذي يعالج مشكلة الأقليات. بمعنى أن عدالة العلاقة وديمقراطيتها بين الأغلبية والأقلية، هو الذي ينهي العناصر النابذة والنافرة في العلاقة بين الطرفين.

ولا نعدو الصواب حين القول: أن هذه العملية بحاجة إلى تكريس قيم الحرية والعدالة في الفضاء الاجتماعي.. وذلك لأنه إذا توفرت الحريات العامة، توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته، وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن.. ويخطأ من يتصور أن الإقصاء والنفي والقهر والاستبداد كأنماط، هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة وحالة الولاء إلى الوطن.. إننا نرى ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي الكفيلة بتعميق حس المواطنة الصالحة.. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز..

وحدها الحرية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين. فالاستقرار السياسي والمجتمعي يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة وطنه وعزته. وأن القواسم المشتركة المجردة بوحدها لا تصنع وحدة، وإنما هي بحاجة دائما إلى تنمية حقائق وحدوية ومصالح متداخلة، حتى تمارس هذه القواسم المشتركة دورها ووظيفتها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق.

وفي منظورنا وتقديرنا، أن فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كل التشوهات والأوهام التي تغذي حالات القطيعة والإقصاء.. ولا تواصل فعال ودينامي، بدون تسويد قيم الحرية والنقد والتسامح.. ففي كنف الحرية وثقافة الحوار والتسامح، تذوب الفروقات والاختلافات، وتتبلور وظيفتها الحضارية في إثراء المعرفة والواقع، وإنضاج خيارات عديدة للرقي والانطلاق.. وفي رحاب النقد البناء تنمو المعرفة، وتزدهر مواطن الإبداع، وتثرى مصادر التجديد والتطوير في الأمة والوطن.. من هنا فإن الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، بجعل وعي الاختلاف وعيا جماليا كتنوع أغصان الشجرة.. ومهمة المنابر الإعلامية في هذا الصدد، احتضان الجهد الإبداعي والنقدي، وتعميق آفاقه ومتطلباته في المحيط الاجتماعي.. كما أن الوظيفة الجوهرية للقارئ والنخبة، هي أن تفتح عقولها وتوفر الاستعداد النفسي اللازم، للقبول بخطاب النقد والإبداع.. ومن الضروري أن يدرك الجميع أن المشاكل في حد ذاتها لا تنشأ من وجود الاختلاف، ولا من وجود أنظمة للمصالح مختلفة، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مشترك أو من تخريب هذا من بعد إيجاده. وحوار النخب ينطلق من الاعتراف بالآخر كما هو شريكا مختلفا مع احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه واعتباره حافزا على التكامل لا داعيا إلى الافتراق، وقدرة نفسية وعملية تتطلب رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بلحاظ اعتباراته ومعاييره الخاصة. فحوار النخب من الأطر الهامة لاستيعاب عملية النقد والمراجعة، والانطلاق نحو تصحيح الأوضاع وتقويم الاعوجاج.. كما أن هذا الحوار من الخطوات الجوهرية التي تساهم في تأسيس نظام مشترك وصيغة فعالة للتنسيق والتعاون..

وإننا نعتقد وبشكل عميق، أن قوة المسلمين الحقيقية ليس في ثرواتهم الطبيعية أو مناطقهم الإستراتيجية أو قوتهم العسكرية، وإنما في حريتهم، وقدرة الجميع لممارسة دوره والتعبير عن رأيه وصياغة واقعه العام على أساس الشورى والحرية.. وحينما تغيب الحرية، لا يتمكن المسلمون من الاستفادة من كل عناصر القوة الموجودة لديهم..وهذا هو المأزق الحقيقي الذي يعانيه المسلمون اليوم. حيث لديهم الكثافة البشرية والثروات الطبيعية الهائلة والموقع الإستراتيجي المتميز، ولكن كل هذه العناصر الحيوية، لا يستفاد منها على أكمل وجه، من جراء غياب الحرية وسيادة نزعات الاستبداد والاستفراد بالرأي والقرار في واقعهم وفضائهم..

وجماع القول: أن الحرية هي بوابة الخير لكل المسلمين وعلى مختلف الصعد والمستويات. ومن يبحث عن قوة المسلمين، فعليه إعطاء الأولوية لمقولة الحرية في حياة المسلمين. فهي منبع القوة الحقيقية للمسلمين، والقادرة على إعادة توازنهم التاريخي واجتراح فرادتهم الحضارية3.