الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

عصر النهضة.. دراسات ومناقشات(6)

6ـ ملاحظات ونقد

بعد هذه المقاربات والموازنات لتلك الدراسات، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية والنقاشية، ومنها:
أولاً: في دراسة حوراني هناك بقايا أثر للاستشراق، مع أنه -حسب قوله- لا يحب تعبير الاستشراق، ويعتبر نفسه مؤرخاً اجتماعيًّا وفكريًّا، يستخدم المقاييس الأوروبية الغربية في دراساته، ويرى أن معظم الدراسات التاريخية المهمة حول العرب هي ذات مصدر أوروبي وأمريكي.
ومن ملامح أثر الاستشراق في دراسة حوراني، تعقُّب الكشف عن تأثيرات الفكر الأوروبي في ساحة الفكر العربي، وفي المفكرين العرب، وكيف أثر فيهم وفي مجتمعاتهم، وكيف غيَّر من نمط علاقتهم بالدين والثقافة والأخلاق التي يعتقدون ويتمسكون بها.
وهذه الملاحظة طالما كانت موضع عناية واهتمام المستشرقين الأوروبيين، ظهرت وتجلت في الكثير من أعمالهم ودراساتهم، وباتت من الملامح والسمات الكاشفة عنهم، والمعرفة بهم، والمميزة لهم.
وقد وقفت على هذه الملاحظة في دراسة حوراني، وتتبعتها، وحددت مواطنها، ووجدت أنها تكررت مرات عدة، وفي مناسبات مختلفة، ومن هذه المرات، الاقتران الذي أشار إليه حوراني بين مدرسة الشيخ محمد عبده وعنايتها بفكرة التربية، وبين كتاب الفرنسي إدمون ديمولان (1852-1907م)، الموسوم بـ(سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الصادر سنة 1897م، وحسب قول حوراني: «كان من المألوف في مدرسة محمد عبده القول بأن الوسيلة الفعالة الوحيدة للنضج القومي، والاستقلال الحقيقي، إنما هي التربية، وقد وجدت هذه الفكرة في أواخر القرن، تأييداً قويًّا لها في كتاب فرنسي أصبح الآن منسيًّا، لكنه أحدث ضجة كبيرة في ذلك الحين هو «مصادر تفوق الأنجلو سكسون» لديمولان»1.
ومن هذه المرات أيضاً، حديث حوراني عن تأثر لطفي السيد ورفاقه بالتفكير الأوروبي، وحسب قوله: «إن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوروبي، الأول هو التفكير الذي عبر عنه، بطرق مختلفة، كل من كونت ورينان ومل وسبنسر ودركهيام، الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه، بحكم سنة التقدم الذي لا يعكس ولا يقاوم، نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل، واتساع أفق الحرية الفردية، وازدياد التخصص والتشابك، وحلول العلاقات القائمة على التعاقد الحر، والمصلحة الفردية محل العلاقات القائمة على العادات والأوضاع الراهنة، والثاني هو تفكير غوستاف لوبون الذي جذب إليه المفكرين العرب، عرضاً، لثنائه الجمِّ على العرب لمساهمتهم في المدنية»2.
ووجهة النظر في هذه الملاحظة، أنها تضع الفكر العربي والإسلامي في موضع المتأثر والتابع، وفي موقع الفرع والطرف، وتضع في المقابل الفكر الأوروبي في موضع المؤثر والمتبوع، وفي موقع الأصل والمركز، وهذه واحدة من ركائز السياسات الثقافية للاستشراق الأوروبي.
ثانياً: امتزج في دراسة حوراني التاريخ الثقافي بالتاريخ السياسي، وطغى في بعض الحالات التاريخ السياسي على التاريخ الثقافي، وحصل ما يشبه الإسهاب والاستغراق في بعض التفاصيل السياسية، التي كادت تظهر الكتاب بغلبة الطابع السياسي عليه، وبالشكل الذي يخرجه عن كونه كتاباً في التاريخ الثقافي، أو ما بين الثقافي والسياسي.
ومن الحالات التي ظهرت فيها مثل هذه الملاحظة، وتغلبت، حديث حوراني عن سعد زغلول (1857-1927م)، والإسهاب في التفاصيل السياسية، وهكذا عند الحديث عن القومية العربية، التي توسع في الحديث عنها شارحاً التاريخ السياسي العربي آنذاك، بنوع من الإسهاب والاستغراق، الذي يناسب كتاباً في السياسة والتاريخ السياسي، وليس كتاباً في تاريخ الفكر العربي.
ولعل أقرب تفسير لهذه الملاحظة، يتحدد في أمرين، الأمر الأول له علاقة بالجانب الفني، والأمر الثاني له علاقة بالجانب العلمي. في الجانب الفني يرجع إلى كون أن بعض فصول كتاب حوراني هي في الأصل محاضرات، وقدمت على صورة محاضرات، في جامعات عربية وبريطانية، والإسهاب والاستغراق في التفاصيل، يحصل عادة في المحاضرات الشفهية.
وبشأن الجانب العلمي، يرجع إلى كون أن حوراني كان أستاذاً للتاريخ، وتاريخ الشرق الأوسط الحديث تحديداً، الأمر الذي يجعل من الممكن حصول مثل ذلك الإسهاب والاستغراق في التاريخ السياسي.
ثالثاً: في كتابه (العرب والحداثة.. دراسة في مقالات الحداثيين)، اعتبر الدكتور عبدالإله بلقزيز أن حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة)، شدد من جهة في اعتبار الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً، وأخرج من جهة أخرى الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير، وإدخاله في خانة الفكر السلفي.
وهذا ما انتقده بلقزيز، وليس صحيحاً في نظره أن الفكر الليبرالي العربي وحده الذي عرف منسوباً من العقلانية والتنوير، من دون سائر تيارات الفكر العربي الأخرى، ويرى بلقزيز أن في العقود الثلاثة الأخيرة، صدرت دراسات حاولت أن تعيد رسم ملامح العقلانية في الفكر العربي المعاصر، بالانفتاح المنهجي على سائر نصوصه وتياراته، وتصحيح الرؤية الأيديولوجية الناحية منحى إقصاء الفكر الإصلاحي الإسلامي من رحاب العقلانية، بفرض النظر إليه بوصفه لحظة من لحظاتها، ومن أهم هذه الدراسات عنده كتاب فهمي جدعان (أسس التقدم)3.
هذا الرأي يستدعي النقاش من جهتين، الجهة الأولى هناك شك في مقولة: إن حوراني اعتبر الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً، والأقرب أنه درس تاريخ الفكر العربي بصورة عامة في العصر الليبرالي الأوروبي، ولم يكن بصدد دراسة تاريخ الفكر الليبرالي العربي، أو النظر إلى الفكر الليبرالي العربي بوصفه فكراً حديثاً.
الجهة الثانية: هناك إرسال في القول بأن حوراني أخرج الفكر الإصلاحي الإسلامي من دائرة العقلانية والتنوير، وأدخله في خانة الفكر السلفي! في مطالعتي لكتاب حوراني لم يتكشف لي هذا الأمر، ولم أجد من الشواهد والدلائل ما تشير إليه، وتدل عليه، كما أن بلقزيز نفسه لم يذكر شواهد ودلائل توثق رأيه، وتبرهن عليه، وهذا ما جعل قوله أقرب إلى الإرسال منه إلى البرهان.
رابعاً: بالنسبة لدراسة شرابي، فقد غلب عليها الطابع الأيديولوجي من جهات عدة، بنيةً ومكوناتٍ، شكلاً ومضموناً، تفسيراً وتحليلاً، لغةً وبياناً، وهذا ما لم يخفه شرابي أو يتكتم عليه، إلى درجة أنه جعل من كلمة أيديولوجيا واحدة من أكثر الكلمات حضوراً وتداولاً في كتابه، وبالشكل الذي أصبح من الممكن النظر إلى هذه الكلمة بوصفها واحدة من الكلمات المفتاحية في الكتاب، خاصة وأنها وردت في عناوين فصلين من فصول الكتاب الثمانية.
شرابي الذي أبرز هذا الطابع الأيديولوجي في كتابه، كان مدركاً وملتفتاً له، واعياً ومتبصراً به، ومتخذاً منه اتجاهاً لكتابه، الذي حاول فيه -حسب قوله- إظهار التطور الأيديولوجي في العالم العربي الحديث.
وبسبب هذا الطابع الأيديولوجي، اعتنى شرابي كثيراً بالتحليلات النظرية والفكرية، ولم يطابقها بمواقف ونماذج عملية وتجريبية، تصدقها وتبرهن عليها. وبسبب هذا الطابع أيضاً، استند شرابي إلى منهج تحليلي يرتكز على الأحكام التقويمية غير المسندة بالحقائق والوقائع.
واللافت في الأمر، أن شرابي حين تحدث عن أيديولوجية الإصلاح الإسلامي في الفصل الثالث من كتابه، منتقداً الإصلاح الإسلامي من هذه الجهة الأيديولوجية، افتتح الفصل بهذا النقد، مصدراً الحكم قبل إثبات الواقعة، بخلاف النهج العلمي الذي يقدم إثبات الواقعة قبل إصدار الحكم.
فقد انتقد شرابي المصلحين المسلمين، من جهة اعتمادهم المتزايد على التفسيرات الأيديولوجية، معتبراً أن السبب الذي دفعهم إلى ذلك لم يكن عجزهم عن رؤية الحقائق، بقدر ما كان عدم توفر فهم منظم لهذه الحقائق، مستنداً إلى مقولة عالم الاجتماع المجري كارل مانهايم (1893-1947م)، الذي يرى أن العجز عن مواجهة الحقائق، يولد أيديولوجية خاصة به.
هذا الموقف من شرابي، الذي أصدر فيه الحكم على الإصلاح الإسلامي ابتداء، ومستبقاً الوقائع والحقائق، يعد بلا ريب موقفاً أيديولوجيًّا، وحتى حديثه عن أيديولوجية الإصلاح الإسلامي، كان حديثاً أيديولوجيًّا، غلبت عليه الأحكام التقويمية، وتفوقت بصورة واضحة.
خامساً: إذا كانت دراسة شرابي غلب عليها الطابع الأيديولوجي، فإن دراسة جدعان غلب عليها الطابع النصوصي، الطابع الذي من شدة ظهوره حرص جدعان التنبيه عليه في مقدمة الكتاب، معتبراً أنه قد استكثر من النصوص، وهذا الأمر بالنسبة إليه كان مقصوداً لذاته، وذلك لكون أن هذه النصوص في اعتقاده ليست جثثاً هامدة أو ميتة، لا تستحق أكثر من أن تروى أو تحكى أو تشرَّح من بعيد، تشريحاً يجردها من كل واقع حي، فهذه النصوص في نظر جدعان ما تزال محتفظة بقدر كبير من الحياة.
لكن هذا الاستكثار في النصوص، حصل فيه إسهاب واستغراق، أظن أنه غير بعض الشيء من صورة الكتاب، وحوله إلى ما يشبه كتاب في النصوص، بالشكل الذي يجيز القول: إنه كتاب في نصوص التقدم والنهضة عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث.
ويتصل بهذه الملاحظة، أن هذه النصوص التي مثلت البنية الأساسية المكونة لهيئة الكتَّاب، بعضها جاء طويلاً استغرق صفحات عدة، كالنصوص التي نقلها عن الماوردي واستغرقت أكثر من سبع صفحات متتالية، وبعض هذه النصوص جاء طويلاً أيضاً، حول مسائل لا حاجة للتطويل فيها، ولا تعد من صلب قضية الكتاب، كمسألة ذم الدنيا التي جرى التوسع فيها، بنقل نصوص طويلة للماوردي والغزالي والطرطوشي، وهكذا في مسائل أخرى.
سادساً: عندما نظر جدعان لكتاب حوراني، وجد أن هذا الأخير ظل يتحدث باستمرار عن المسيحيين، وبنوع من العناية والاهتمام، متقصداً التنويه بهم، والإشارة إليهم، مُلمِّعاً صورتهم، ومُذكِّراً بإسهاماتهم وإنجازاتهم الفكرية والأدبية والسياسية، وهذا ما أثار حفيظة جدعان ونقده وامتعاضه، وشكَّل دافعاً له نحو العمل على إنجاز كتابه (أسس التقدم)، الذي تقصَّد أن يخصصه لأعمال مفكري الإسلام، مبرزاً هذه الأعمال، وحاصراً عمله بعيداً عن أعمال المسيحيين العرب.
لكن المفارقة الغريبة والمحيرة، أن جدعان الذي بذل جهداً واضحاً في البحث عن أعمال المفكرين المسلمين، وجامعاً نصوصهم التي تتصل بقضية الترقي والتقدم والتمدن والنهضة والإصلاح والفلاح والحضارة والعمران وغيرها، وجمع كمًّا كبيراً من هذه النصوص، التي تنسب إلى أشخاص من مشرق العالم العربي ومغربه، لمثقفين ومفكرين وأدباء ورجال دين، حاصراً هذه الأعمال والنصوص في نطاق المسلمين السنة، ومتغافلاً كليًّا عن أعمال ونصوص المسلمين الشيعة.
لا شك في أن هذه مفارقة غريبة ومحيرة، ما كان جدعان بحاجة إلى الاقتراب منها، والاحتكاك بها، والوقوع فيها، وما كان بحاجة إلى مناقشته والاحتجاج معه بشأنها، وهو الذي تحرك في كتابه بدافع إنصاف مفكري الإسلام، الذين لم ينصفهم حوراني كما ينبغي حسب ظنه، والسؤال: لماذا لا يكون الذي يتحرك بدافع الإنصاف منصفاً مع غيره من المسلمين الآخرين، الذين وضعهم في خانة الخفاء والنسيان، كل ذلك حصل من دون الإشارة إلى تفسيرات بينة وواضحة.
وعند البحث عن تفسير ممكن لهذه الملاحظة الغريبة والمحيرة، وقفت على تفسير فاقم هذه الغرابة والحيرة، وهذا التفسير لم يرد في كتاب (أسس التقدم)، لكنه ورد في كتاب آخر لجدعان، هو كتاب (الماضي في الحاضر)، وتحديداً في الموضوع الذي ناقش قضية (نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر)، الذي تتبع فيه جدعان نظريات الدولة عند شريحة من الكتَّاب العرب المسلمين المعاصرين، وقبل أن ينهي البحث اعتبر جدعان في الهامش، أن «لا مكان للخوض في هذا البحث، في نظرية الشيعة في الدولة، لأن المفكرين العرب المسلمين الذين يدور عليهم هذا البحث، ينتمون جميعاً إلى العالم العربي الذي هو عالم سني»4.
وهذا الرأي كرره جدعان في كتابه (تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات) الصادر سنة 2014م، الذي أعاد فيه نشر مقالة (نظريات الدولة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر)، بتمامها من دون مراجعة أو فحص.
وبقدر ما تألمت لهذا الكلام الذي صدمني، وصدم النخب الفكرية الشيعية برمتها، بقدر ما تأسفت أن يصدر هذا الكلام من رجل فاضل له وزنه العلمي والأكاديمي كالدكتور جدعان، ولا أدري إن كان جدعان يقدر مدى قسوة كلامه أم لا! فهذا الكلام ليس قاسياً فحسب، وإنما هو كلام ظالم وظالم بشدة، بعيد كل البعد عن موازين الحق والعدالة والإنصاف.
ولا أريد القول: إن جدعان ليست له دراية ومعرفة بالعالم العربي وتركيبته السكانية، ولن يقبل مني ومن غيري مثل هذا الكلام بحقه، لكن من يصرح بهذا الكلام لا شك أنه تنقصه الدراية والمعرفة التامة بالعالم العربي، فأين هذه المعرفة بمجتمعات مثل العراق ولبنان وسوريا والبحرين والكويت والسعودية والإمارات وسلطنة عمان وغيرها.
وأتمنى على الدكتور جدعان بصدق وحرص كبيرين، أن يعيد النظر في هذا الرأي ويتخلى عنه، ويحذفه من كتاباته، لأنه كلام خاطئ بالمطلق، ولأنه كلام جارح ويجرح الكرامة.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن كتاب جدعان جاء ناقصاً في تركيبته البنيوية، لأنه انحصر بفريق واحد من المسلمين المعاصرين، وتغافل وأهمل فريقاً آخر من المسلمين المعاصرين، فريق لا يكتمل أي عمل إلا بهم، بإشراكهم لا بحذفهم أو تغافلهم.
علماً أن الطبعة الرابعة من الكتاب الصادرة سنة 2010م، تحدث فيها جدعان عن السيد محمد باقر الصدر (1353-1400هـ/1935-1980م) في نهاية الكتاب، وهذا لا يغير من جوهر هذه الملاحظة، لأنه تحدث عن السيد الصدر فقط دون غيره، ولم يوضح لماذا أضاف السيد الصدر، ولماذا السيد الصدر وحده دون غيره.
سابعاً: اعتبر الدكتور رضوان السيد أن دراسة جدعان تتفوق على دراستي حوراني وشرابي عمقاً وتفصيلاً، لكنه أخذ عليها أنها جاءت من دون أطروحة حاكمة5.
وبحسب هذا الرأي، فإن الدكتور السيد يرى أن دراسة جدعان هي دراسة عميقة ومفصلة، لكنها تفتقد إلى أطروحة تقف وراءها، وتنتصر لها، وتكون حاكمة عليها، وتستهدف الدفاع عنها، فهي مجرد دراسة فكرية حالها كحال غيرها من الدراسات الفكرية العميقة والمفصلة في المجال العربي المعاصر.
وبخلاف هذا الرأي تماماً، أرى أن فكرة الأطروحة في دراسة جدعان هي أكثر وضوحاً وتجلياً من دراستي حوراني وشرابي، وأن إدراك جدعان ووعيه بفكرة الأطروحة هو الذي قاده وحفَّزه لإنجاز دراسته بهذا المستوى من الجهد، وبهذا الاتساع الكمي، وبهذا الامتداد الزمني.
ومن دلائل الوعي بفكرة الأطروحة عند جدعان، أن دراسته جاءت بدافع الحس النقدي لتلك الدراسات السابقة، التي غلبت المنحى الليبرالي والعلماني في دراسة عصر النهضة، فقدمت أشخاصاً وأبرزتهم، وأهملت أشخاصاً وغيبتهم، وأعلت أفكاراً وميزتها، بدوافع فكرية وأيديولوجية، وفي مقدمة هذه الدراسات التي كانت في إدراك جدعان دراسة حوراني.
ومن دلائل الوعي أيضاً بفكرة الأطروحة عند جدعان، حين أوضح أن منطلقه في بحث موضوع دراسته، اعتقاده بأن قطيعة كاملة مع الأصول لم تحدث في الفكر العربي الحديث إلا في دوائر محدودة جدًّا، وأن الطرح الصحيح في نظره لهذا الفكر، يكمن في اعتبار أن الهواجس الحديثة قد ظلت مطلة باستمرار في القطاع الكبير من تجلياته على وجوه الفكر العربي الكلاسيكية المختلفة، أما أولئك الذين أداروا ظهورهم للأصول، وطرحوا مفهوم النهضة العربية الحديثة على أسس مقطوعة الصلة بالأصول، فإنه لا يرى الأمور من هذه الزاوية، ولا يتجه نحوها، والاعتماد عليها كأساس لمنطلقات عربية شاملة6.
وليس هناك أوضح من هذا الرأي، ليس في الكشف عن الوعي بفكرة الأطروحة عند جدعان، وإنما في تمثل هذه الأطروحة وتحققها.
ومن دلائل الوعي كذلك بفكرة الأطروحة عند جدعان، أنه أراد من دراسته أن تكون مختلفة ومغايرة تماماً، ومن كل الجهات عن دراسات الآخرين المحسوبة على المنحى الليبرالي والعلماني.
فمن جهة التسمية تقصد جدعان استعمال كلمة التقدم بدل كلمة النهضة، ومن جهة المرحلة حبذ الكلام على أزمنة حديثة عربية، دون الكلام عن عصر حديث، ومن جهة الزمن اعتبر أن الأزمنة الحديثة عربيًّا تبدأ مع ابن خلدون لا مع مدافع نابليون، ومن جهة الأشخاص تقصَّد الحديث عن مفكري الإسلام الذين قدموا إسهاماً قويًّا مستلهماً من الإسلام بوصفه دين حضارة يدعو للتقدم، دون الحديث عن غيرهم من أصحاب التيارات الليبرالية أو العلمانية أو التغريبية التي لاقت صدى لا ينكر لدى بعض المفكرين العرب المحدثين.
لهذه الدلائل وغيرها جاز القول: إن وعي جدعان بفكرة الأطروحة، يفوق غيره من الدارسين السابقين عليه7.

  • 1. ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص189.
  • 2. ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص181.
  • 3. عبدالإله بلقزيز، العرب والحداثة، مصدر سابق، ص81.
  • 4. فهمي جدعان، الماضي في الحاضر.. دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1997م، ص182.
  • 5. رضوان السيد، الصراع على الإسلام، مصدر سابق، ص124.
  • 6. فهمي جدعان، أسس التقدم، ص14.
  • 7. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الكلمة، مجلة فصلية، السنة الحادية والعشرون، العدد 84، صيف 2014م / 1435هـ.