الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

عناصر الاحتكار أو مقوّماته وشروطه

للاحتكار مجموعة من العناصر والمكوّنات التي تؤخذ في موضوعه أو تؤخذ في حكمه، وهي متعدّدة لابدّ من رصدها وتحليلها.

 

1 ـ مقصدية زيادة الثمن (هدف المحتكر)

من الواضح أن حبس السلع أو الطعام له حالتان:

الأولى: أن يحبسه ليأكل هو منه مع أفراد أسرته ومن يرتبط به أو لقضاء حاجة أخرى فيه كأن يحبس البذر لكي يزرع لنفسه وما شابه ذلك. ومن الواضح في هذه الحال أنّه لا يحرم الاحتكار إذا سلّمنا بصدق عنوان الاحتكار فيها، إذ نحن نستبعد صدق هذا العنوان على مثل ذلك كما تقدّم في التحليل اللغوي، كما أنّ النصوص غير ظاهرة في هذا المورد، إضافة إلى أنّ العرف والعقلاء لا يرونه مرفوضاً إذا كان ضمن الحدّ المعقول.

الثانية: أن يحبسه لغرض تجاري، وهو التربص به بانتظار غلائه ليبيعه بسعر مرتفع، وهذا من الاحتكار بحسب كلمات الفقهاء بل بعض النصوص السابقة ـ مثل الحديث رقم 6، وبعض صيغ الحديث رقم 2، ويشعر به الحديث رقم 5، مضافاً إلى خبر الحلبي الذي استدلّ به القائلون بالكراهة ـ ولو تركنا النصوص فإنّ هذا المصداق يعدّ من الاحتكار في الذهن العرفي والعقلائي، لاسيما مع ربط الاحتكار بمفهومي الضرر والظلم.

والذي يظهر من تناول الفقه الإسلامي لهذا الموضوع 1 أنهم فرضوا الصور على الشكل المتقدّم، وأن الحابس إما أن يحبس لقوت نفسه وعياله أو يحبس انتظاراً للغلاء ولأهداف ربحية، ويحتمل في هذا التقسيم الثنائي أن يراد منه ذكر الربح وزيادة الثمن من باب المثال لمطلق غرض مقابل لمثل قوت النفس والعيال ومن ثم فلا يكون عنوان «طلب الزيادة» مأخوذاً بشكل موضوعي في هوية الاحتكار أو حكمه، وإنما ذكر في الكلمات والنصوص جرياً على الحالة الغالبة في الاحتكار والتي تحبس البضائع والسلع بهدف تحصيل الزيادة المالية والربحية، ولهذا ذكر السيد الطباطبائي «وأما اشتراط استبقائه لزيادة الثمن فواضح إن أريد نفي الحكرة إن استبقاه للقوت، ومحلّ إشكال إن أريد الظاهر والإطلاق ولو لغير القوت، بل المنع فيه مع عدم احتياجه إليه محتمل، للإطلاقات وإشعار التعليل المتقدّم به» 2.

ومؤدّى ذلك أنّ الأشكال الأخرى للاحتكار داخلة فيه حكماً وموضوعاً، كالاحتكار لأغراض سياسية أو للضغط على بعض الدول والمجتمعات، كما يحصل كثيراً في الآونة الأخيرة على المستوى العالمي، فإنّ هذا الاحتكار صادق عرفاً وعقلائياً ومصداق لقانون الضرر وحرمة التضييق والأذية. وهكذا الحال لو قصد من الحبس غرضاً تجاريّاً آخر غير الربح، كما لو كان المطلوب حفظ قيمة السلعة بحيث لا ينخفض سعرها في السوق وغير ذلك مما فيه تضييق على الناس وشدّة.

وقد ذهب السيد الخوانساري والعلامة شمس الدين إلى التعميم 3، وهو الصحيح بمعنى أنّ الاحتكار هو حبس السلعة لغرض تجاري أم سياسي أم غيرهما، وسواء كان الغرض التجاري هو الاسترباح أم غيره، فليست العبرة بنوعية الغرض بقدر ما هي بآثار نفس الاحتكار، وإنما خرج القوت لنفسه وعياله لأنّ ذلك لغرض نبيل كما لو كانت هناك مصلحة أهم، بل لكونه لا يدخل في حبس الطعام؛ لأنّ المنصرف هو الحبس لغير قوت النفس والعيال، ففي زمان الاحتكار لا يقال لمن كان في بيته بعض الحنطة الزائدة لمؤونته وعياله إنه محتكر عرفاً، نعم، ما يكون حبساً لما يقال عرفاً إنّه لا تحتاجه النفس والعيال قد يصدق حينئذٍ، كما لو كان كثيراً جدّاً.

2 ـ عدم توفّر السلعة في السوق بقدر الكفاية

ذكر غير واحد من الفقهاء أنّ الاحتكار مأخوذ فيه عدم وجود باذل أو بائع آخر في السوق يقوم بعرض السلعة بمقدار كفاية الناس 4، ولم يتعرّض فقه الجمهور في العادة لشرطٍ من هذا النوع، وقد علّل ذلك بأنّه لبداهته 5، وهو كذلك، والدليل على هذا الشرط:

أولاً: إنه لا يصدق الاحتكار مع توفر السلعة في السوق بالمقدار الذي يحتاجه السوق، فلا يقال: احتكر فلان البضاعة الفلانية إذا خبأها في مخازنه ومستودعاته مع وجود كثير منها في السوق، فيكون هذا الشرط شرطاً موضوعياً لا حكمياً، ومعه لا تشمل هذه الحالةَ الأخبارُ المطلقة.

ثانياً: إنّ بعض الروايات دلّ على هذا القيد، كما في صحيحة سالم الحناط المتقدّمة (رقم 4)، وصحيحة الحلبي (رقم 5)، وكذلك خبر الحلبي الآخر الذي أوردناه في أدلّة القول بالكراهة، بل نحن نفهم من الروايات التي دلّت على شرط الاستبقاء لزيادة الثمن أنها تأخذ ضمناً هذه الحالة؛ لأنّ حبس السلعة لا يتحقق قصد رفع الثمن فيه إلا مع عدم توفرها بمقدار الكفاية في السوق، وبهذا نضم هذه الروايات إلى بعضها، فيكون مثل صحيح سالم الحناط وصحيح الحلبي قيداً يقيّد إطلاق سائر النصوص على تقدير انعقاد إطلاق فيها لمثل هذه الحالة.

ثالثاً: إنّ دليل نفي الضرر والظلم في مورد حقّ العامة لا يشملان أيضاً هذا المورد؛ لأنه لا يلحق بالناس ضررٌ بعد فرضنا أنّ البضاعة متوفرة في السوق بقدر حاجة الناس، كما لا يتصف هذا الفعل بالظلم والاعتداء على الحقّ العام في هذه الحالة.

وبهذا نثبت أن الأدلّة المانعة عن الاحتكار لا تطال حبس السلع مع وجودها في السوق.

ويبقى أن نشير أخيراً إلى أننا استبدلنا العنوان المتداول في كلماتهم هنا، وهو عدم وجود البائع أو الباذل بعنوان (عدم توفر السلعة في السوق بقدر الكفاية)؛ لأنه لا خصوصية إلا لتوفر السلعة سواء ببذل شخص أو بيعه لها أم لأيّ سبب آخر، كما أنّ إضافة قيد الكفاية يظلّ ضرورياً كما صرّح به بعضهم 6، فلو كانت السلعة موجودةً لكنها كانت قليلة لا تكفي الناس، كما لو كانت تسدّ 5% من حاجاتهم فقط، فإنّ عنوان الاحتكار يصدق حينئذٍ، والروايات المقيّدة المتقدّمة يفهم منها هذا المعنى؛ لعبثية أصل وجود السلعة في السوق ولو بمقدار محدود كما هو واضح عرفاً وعقلائياً، ولهذا عبّرت رواية الحلبي: «..الطعام قليلاً لا يسع الناس».

3 ـ حبس السلع والبضائع

الذي يظهر بشكل واضح من ثنايا كلمات الفقهاء المسلمين أنّ الاحتكار قد أخذ فيه عنوان الحبس، أي احتجاز السلع وتخرينها في مقابل عرضها في السوق، وهذا معناه أنه لو عرضها للبيع وتمّ توفيرها في السوق فلا يقال عنه بأنه محتكر ولا يشمله حكم الاحتكار.

وقد طرح العلامة شمس الدين هنا موضوعاً للبحث، وهو أنّ الحبس هل يؤخذ بنحو الموضوعيّة أم أنّه قد أخذ على نحو الطريقية؟ ومعنى ذلك أنه هل الحبس بذاته عنصر أساس لتحقيق الاحتكار أم أنّ الحبس ليس إلا وسيلة للحيلولة بين الناس والسلعة، فيكون الموضوع هو تعجيز الناس في شراء السلعة رغم حاجتهم إليها، ومن ثم فلو قام التجّار بعرض السلعة في السوق بأسعار مرتفعة جداً أو بشروط قاسية فهل يكون هذا من الاحتكار أم لا؟ هل الحبس وسيلة مقصودة بذاتها في مسألة الاحتكار أم أنّها مجرّد طريق لأصل الحيلولة العرفيّة بين الناس والسلعة، فلو تحقّقت هذه الحيلولة بغير طريق الحبس كان احتكاراً محرماً أيضاً؟

وقد حاول العلامة شمس الدين أن يطرح ما يمكن أن يكون دليلاً لأخذ مفهوم الحبس في الاحتكار المحرّم، فذكر أمرين:

1 ـتقوّم مفهوم الاحتكار بالحبس في كلمات اللغويين، وهذا معناه أنّ اللغة نفسها لا تفسح المجال لصدق اسم الاحتكار من دون حبس.

2 ـإنّ الحبس مأخوذ شرعاً أيضاً في الاحتكار، كما يفهم من الأخبار، بل يتعزّز هذا الأمر ببعض الروايات الخاصّة التي تكشف بشكل واضح عن دور الحبس في الاحتكار، وهي روايتان:

أ ـ خبر حذيفة بن منصور (عبد الله بن منصور)،عن أبي عبد الله× قال: «نفد الطعام على عهد رسول الله$، فأتاه المسلمون، فقالوا: يا رسول الله، قد نفد الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان، فمره يبيعه الناس، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلا شيئاً عندك فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه» 7. فإنّ الجمع بين نهيه له عن الحبس وترخيصه بالبيع كيف شاء معناه أنّ المشكلة كانت تكمن في حبسه له لا في أصل التعجيز عبر سعر مرتفع.

ب ـ خبر الحسين بن عبد الله بن ضمرة، عن أبيه، عن جدّه، (وخبر غياث بن ابراهيم)،عن علي بن أبي طالب× أنه قال: «رفع الحديث إلى رسول الله$أنّه مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق، وحيث تنظر الأبصار إليها، فقيل لرسول الله$: لو قوّمت عليهم، فغضب رسول الله$حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوّم عليهم؟! إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء» 8.

فإنّ تمييزه بين الاحتكار وقضية التسعير خير دليل على أنّ أصل الحبس مقابل العرض في بطون الأسواق هو المحرّم في الاحتكار، بل كلّ النصوص التي استدلّ بها على المنع من التسعير تنفع هنا أيضاً.

ثم ناقش العلامة شمس الدين هذين الدليلين بعد أن جزم بأنّ الحبس لم يؤخذ في الاحتكار بنفسه، وإنما استحضر لكونه الأمر المتعارف عند من لا يريد البيع.

أما الدليل الأوّل، فلأنّ أهل اللغة مختلفين في اعتبار هذه الخصوصية في الاحتكار؛ إذ منهم من فسّر الاحتكار دون ذكر الحبس، مضافاً إلى أنّ المبحوث عنه هنا هو الاحتكار عند الشارع لا عند أهل اللغة؛ لأنّ الشارع قد تصرّف في مفهوم الاحتكار ولم يأتِ حكمه على نفس المعنى اللغوي، فلا يستفاد من التحديد اللغوي هنا.

وأما الدليل الثاني، فأجاب عنه شمس الدين بجوابين:

1 ـإنّ الاحتكار نشاط بشري محض ولا توجد فيه ـ مادام كذلك ـ ألوان التعبّد الشرعي الغيبي ما دام موضوعاً للحكم الشرعي، ومن هنا يمكننا بالتحليل البشري العقلاني أن نفهم الاحتكار بوصفه دائراً مدار وصول السلعة إلى الناس أو الحيلولة بينهم وبينها ولو بتعجيزهم عن شرائها برفع ثمنها.

2 ـإنّ الخبرين المتقدمين لا يدلان هنا أيضاً، إذ يمكن حملهما على أنّ السعر كان متعارفاً ومقدوراً للناس بعد إخراج البضاعة إلى الأسواق، فبعد خروج جميع السلع المحتكرة سوف يكون هناك تنافس في الأسعار مما يؤدي إلى انخفاض القيم الشرائية في السوق.

لكن بعد ذلك كلّه، تراجع الشيخ شمس الدين عن كلّ ما تقدّم، ليجعل الحبس مقوّماً لمفهوم الاحتكار، بيد أنه عاد وألحقه فيه حكماً بوحدة الملاك الذي يكشف عنه عموم التعليل في صحيحة الحلبي: «يكره أن يحتكر الطعام، ويترك الناس ليس لهم طعام»، وغيرها من الأخبار، وبهذا أدرج شمس الدين هذه الحالة في الاحتكار حكماً لا موضوعاً 9.

ويمكن التعليق على محاولة العلامة شمس الدين بما يلي:

أولاً: إنّ اللغويين أخذوا الحبس في المعنى اللغوي للاحتكار كما تقدم، بل الجذر اللغوي يقوم على الحبس كما نقلنا عن ابن فارس، وإذا كانت عبارة أو عبارتين لم يرد فيهما ذكر الحبس فهذا لا يعني زوال هذا القيد أو كون المورد خلافياً، والمراجع لكلمات اللغويين يشرف على اليقين بما نقول، حتى أنّ الشيخ شمس الدين نفسه عندما كان في بدايات أبحاثه يعالج المعنى اللغوي قال: «وقد أجمعت كلمات أهل اللغة على اعتبار أمورٍ لا يتحقق الاحتكار بدونها وهي: جمع السلع طعاماً كانت أو غير ذلك وحبسها بالامتناع من البيع وانتظار غلاء سعرها» 10. كما ذكر في موضعٍ آخر أنّ مفهوم الاحتكار لغةً متقوّم بثلاثة أمور عدّ منها حبس السلعة عن البيع 11.

ثانياً: لم يتضح لي كيف أنّ الشارع تصرّف في مفهوم الاحتكار، لاسيما عند مثل العلامة شمس الدين الذي لم يقبل بغير قيدٍ من القيود التي ذكرت مما قد يفيد ذلك، كالقيد الزماني12، وقيد الشراء المسبق 13وغير ذلك، ثم إنه لابد من التفريق بين أن يكون الشارع قد تدخّل في الاحتكار بأنّ حرّم بعض مصاديقه وبين أن يكون قد تصرّف بأن يكون وسّع مفهومه ليحرّم ـ بعنوان الاحتكار ـ أمراً ليس من الاحتكار لغةً، ففي الحالة الأولى لا يعدّ ذلك تصرّفاً ما لم ينفِ الموضوع بنفسه نفياً لا يراد منه نفي الحكم فقط وإنما تعديل المفهوم؛ إذ في هذه الحالة يبقى المفهوم على حاله غاية الأمر أنّ الشريعة تحرّم بعض مصاديقه وتطبيقاته، وهذا غير التصرّف الموجب لتأسيس مفهوم جديد، وإلا ربما كانت أغلب الكلمات محمولةً على معنى شرعي غير لغوي كما هو واضح، وإنما يطلق أنّ الشارع عدّل في المفهوم عندما يدخل فيه فرداً جديداً أو يكشف معنى معيناً بحيث يتم هجران المعنى الأول كالصلاة والصوم، وإلا فالمفترض البقاء على المعنى اللغوي إلا ما خرج بالدليل.

والحالة التي نحن فيها لا تعدو أن تكون مجرّد بعض التقييدات الراجعة إلى الحكم لا تصرّفاً شرعياً في المفهوم.

ثالثاً: إنّ كون الاحتكار نشاطاً بشرياً لا يعني زوال التعبّدية، بمعنى عدم اكتشاف الملاك عنه، وقد ذكرنا في مناسبة أخرى وناقشنا هذه الفكرة التي طرحها العلامة شمس الدين والعلامة فضل الله، وذكرنا أنّ التمييز في التعبدية وكشف الملاك بين العبادات والمعاملات تمييز غير دقيق علمياً على إطلاقه.

رابعاً: إنّه حتى لو سلّمنا بمسألة كشف الملاك، فهذا لا يعني دخول رفع السعر في الاحتكار، نعم يثبت تحريم رفع السعر بملاك تحريم الاحتكار فيشتركان في علّة التحريم، وهذا ما ينتج حرمة الاحتكار وحرمة الغلاء الفاحش في الأسعار بوصفهما حكمين لموضوعين منفصلين بملاك واحد، وهذا تماماً كتحريم عشرات الأمور بملاك تحريم الإضرار بالناس، فلا يصحّ منهجياً جعل هذا البحث في الاحتكار وإنما هو ملحق به مغاير له.

خامساً: إنّ حمل الخبرين المتقدّمين على صورة السعر المقدور حملٌ تبرّعي لا شاهد عليه، ومجرّد إمكان الحمل لا يكفي، على أنّ إمكان الحمل غير معلوم فإنّ التعليل في الخبر الثاني بأنّ السعر الله فقط هو الذي يرفعه وهو الذي يخفضه ظاهرٌ في حصر التسعير بالله تعالى وأنّه لا يحقّ حتى للنبيّ$التدخل في هذا الأمر، فلو كان يحرم البيع بسعر مرتفع تعجيزي لجاز للنبي$التدخّل لتخفيض السعر دون تعيينه، وهذا خلاف ظاهر التعليل الدالّ على الحصر.

وربما يمكن المناقشة في السند، من حيث إنّ الخبر الثاني له طريقان:

أحدهما: ينتهي إلى غياث بن إبراهيم، وهو الطريق الذي ذكره الشيخ الصدوق في (التوحيد)، وهذا الطريق فيه إبراهيم بن هاشم، على أنّ ابن هاشم يروي فيه عن غياث، وغياث أقصى ما ذكر فيه أنه ممّن روى عن الكاظم×، مع أنّ روايته عنه قليلة جداً إن لم تكن معدومة، ولم يذكر إطلاقاً في طبقة الإمام الرضا×، في حين يوجد كلام في معاصرة إبراهيم بن هاشم للإمام الرضا، فكيف يمكن أن يكون قد روى عن غياث؟! كما أننا لم نعثر في الكتب الأربعة على رواية لإبراهيم بن هاشم عن غياث بن إبراهيم، الأمر الذي يشكّكنا في وجود إرسال خفي في هذا السند.

ثانيهما: وينتهي إلى ضمرة، وهذا السند ضعيف، فإنّ فيه الحسين بن عبد الله بن ضمرة، وهو رجل مجهول 14، وكذلك الحال في ضمرة نفسه فهو رجل مهمل 15، وكذلك عبد الله بن ضمرة فإنه مهمل كذلك 16. وعليه فالخبر الثاني ضعيف السند بطريقيه.

وأما الخبر الأول ففي سنده محمد بن سنان، ولم يثبت توثيقه عندنا.

سادساً: إنّ الاستدلال ببعض الأخبار الخاصّة للحكم بتحريم هذا الفعل التعجيزي لا بأس به لو صحّت هذه الرواية وبلغت درجة الوثوق بالصدور الذي هو الحجّة في باب الأخبار.

والمتحصّل أنّ الاحتكار متقوّم بالحبس، ولو كان غيره حراماً فبعنوان آخر قد يلتقي معه في منطق الاستدلال.

4 ـ التحديد الزماني (مدّة الحبس والاحتكار)

ذهب بعض الفقهاء إلى الحديث عن تحديد زماني في الاحتكار حتى يكون محرّماً، فعلى مستوى مذاهب الجمهور لم يتعرّض لهذا الموضوع بشكل أساسي سوى الأحناف، حيث ذهب بعضهم إلى تحديد المدّة بأربعين يوماً، فيما ذهب آخرون إلى أنها شهر واحد 17.

وأما عند الإمامية، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تحديد ذلك بأربعين يوماً في زمان الرخص والسعة، وبثلاثة أيام في زمان الغلاء واشتداد الأمر على الناس 18، لكنّ أكثر الفقهاء لم يختاروا هذا الشرط والتحديد.

وقد استدلّ لصالح هذا التحديد الزماني ببعض الأدلّة التي عمدتها بعض الروايات الواردة عند الشيعة والسنّة، وأهمّها:

1 ـ رواية السكوني،عن أبي عبد الله× قال: «الحكرة في الخصب أربعون يوماً، وفي الشدّة والبلاء ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون» 19.

فإنّ هذه الرواية ظاهرة في التحديد الزماني مع تفصيل في الحالات والموارد، بحيث ما يكون أقلّ من هذا الوقت لا يكون حراماً.

وقد تناقش الرواية:

أولاً: بضعفها السندي؛ لعدم ثبوت وثاقة النوفلي على الأصحّ.

وثانياً: بما ذكره السيد الخوئي، من أنّه لا يمكن تصديق هذه الرواية؛ لأنه إذا كان للناس حاجة فلا يجوز الحبس ولو لساعة واحدة وإلا جاز لأكثر من سنة، فلا معنى للتحديد الوارد فيها 20.

ولعلّ هذا هو ما أراده الشيخ شمس الدين من أنه لا معنى للتعبّد هنا، وأنّ ما ورد إنما هو على الغالب في تلك الأيام على مستوى الحاجة 21. ويظهر من الشيخ الأنصاري وغيره رفع احتمال التعبّد أيضاً 22.

وهذه الملاحظة تجرّ إلى قاعدة عامّة في أنّ غير واحد من نصوص النبي وأهل بيته كانت منطلقةً من شخصية بيان الموضوع وضبطه لتسهيل الأمر على المكلّفين، وأنّ هذه شخصيةٌ ثالثة في المعصوم إلى جانب شخصيته التبليغية والحكومية.

وعلى أية حال، فقد يجاب عن مناقشة السيد الخوئي بأنّ الفقهاء الذين منعوا من الاحتكار بملاك الروايات المطلقة، كخبر السكوني هذا، لا يهمّهم وجود الحاجة وعدمها بمعنى لحوق الضرر على الناس من الاحتكار وعدمه، إذ قد يفرض الاحتكار على نوعين: أحدهما أن يجري الاحتكار بحيث يفضي إلى الضرر وأذية المسلمين ووقوعهم في ضيق ومشقة، وهذا هو القدر المتيقّن من حرمة الاحتكار، وثانيهما أنه يحرم الاحتكار حتى ولو لم يكن فيه مشقة على الناس، وهنا يكون المطلوب وفرة السلعة في السوق مقابل عدم وفرتها المفضي إلى ارتفاع سعرها بما لا يوجب ضرراً ومشقة وغير ذلك، وهذا معناه أنه لابد من فرض أنّ الاحتكار الملحوظ في النصوص هو النوع الأوّل خاصّة لا مطلقاً، وإلا فلا يكون إشكال السيد الخوئي في محلّه، بل قد تجعل الرواية التي نحن فيها دليلاً على بطلان إشكاله؛ لأنها فرضت الاحتكار في الخصب وزمان اليسر مما يوحي بأنّ الزمان ليس زمان شدّة، فما ذكره بعض المعاصرين من جعل هذا الأمر في الرواية دليلاً على إرادة الكراهة من اللعن الوارد بعد الأربعين في حالة الخصب 23غير صحيح.

والذي يلاحظ بمراجعة النصوص الواردة في الاحتكار أنّ كثيراً منها ورد في الطعام الذي يستوعب الحنطة أو هي وغيرها من أساسيات الطعام، مما يعني أنّ القدر المتيقن من مورد النصوص قد يدّعى كونه الاحتكار المفضي بنوعه إلى ضرر ومشقة وضيق على الناس، بل هو ما يلاحظ من مثل عهد الإمام علي لمالك الأشتر، ومعه لا يحرز شمول التحريم لأكثر من هذا المقدار، فيكون خبر السكوني ناظراً إليه، فيصحّ إشكال السيد الخوئي، لاسيما بملاحظة التحديد بثلاثة أيام في الشدّة والبلاء؛ فإنه من البعيد رضا الشارع ببقاء الناس في الشدّة والبلاء ثلاثة أيام كما أشار إليه الإمام الخميني 24، ما لم يجعل الثلاثة أيام بمثابة الفترة الطبيعية لاستهلاك الناس ما خزّنته من المؤن والحاجات.

وإذا كان هذا هو المعيار، يصبح من المنطقي حمل هذه الرواية على الحالة الغالبة كما فعل شمس الدين، ولهذا قال الشهيد الثاني: «ولا يتقيّد بثلاثة أيام في الغلاء، وأربعين في الرخص، وما روي عن التحديد بذلك محمول على حصول الحاجة في ذلك الوقت؛ لأنها مظنّها» 25.

وثالثاً: بما ذكره المحقق النراقي، من عدم إمكان الأخذ بخبر السكوني؛ لمخالفته للشهرة العظيمة 26.

وهنا إذا قصد من الشهرة تلك التي بين المتأخرين فلا قيمة لها، لاسيما وأنها قد تكون ناتجةً عن مقاربة النصوص والتوفيق بينها كما سنلاحظ، فلا توجب سقوط الرواية عن الاعتبار حتى لو قلنا بقاعدة الوهن، وأما إذا قصد الشهرة بين المتقدّمين، فإذا قصد تمام الفقهاء المسلمين فالشهرة متحقّقة، لكنّ إعراضهم لا يوجب سقوط الراوية؛ لأنّ الفرض أنّ سائر الفقهاء ما كانوا يبالون كثيراً بروايات أهل البيت، حيث لا يعتبرونها مصدراً تشريعياً، فلا يدلّ إعراضهم على إسقاط الحجّية الصدورية، وأما إذا قصد فقهاء الإمامية، فلا يحرز أنّ الشهرة بين المتقدّمين ـ لو غضضنا الطرف عما تقدّم ـ منعقدة على عدم أخذ هذا القيد، بعد ذهاب مثل الشيخ الطوسي 27، وابن حمزة 28، إلى هذا التقييد، بل حتى لو انعقدت يحتمل جدّاً أن يكونوا فهموا منها الإشارة إلى الحالة الغالبة لا بيان حكم شرعي تعبّدي، ومع هذا الاحتمال المعقول جدّاً ـ بقرينة ذهاب بعض الفقهاء الآخرين إليه ـ لا يكون إعراضهم موجباً لوهن السند كما هو واضح.

ورابعاً: بما ذكره الإمام الخميني والعلامة شمس الدين، وحاصل كلامهما ـ بعد ضمّه ـ أنّ خبر السكوني معارض ببعض الأخبار الأخرى، وهما خبر الحلبي (رقم 5) وخبر سالم الحناط (رقم 4)، حيث يفهم منهما أنّ العبرة بترك الناس بلا طعام، الأمر الذي يوقع المعارضة في مادّة الافتراق، فيتساقط المتعارضان ويرجع إلى مطلقات تحريم الاحتكار، أو ترجّح الروايات المخالفة لخبر السكوني؛ لكونها موافقة للاعتبار وفيها مناسبة بين الحكم والموضوع 29.

وهذه المناقشة متفرّعة على حجية الأخبار، لكن يمكن أن يقال بأنه لا تنافي بين خبر السكوني وخبر سالم الحناط؛ لأنّ الأخير إنما كان بصدد الحديث عن سحب الطعام من الأسواق مقابل وجود باذل آخر وبائعين آخرين، فتكون العبرة هنا بملاحظة عنصر آخر غير العنصر الذي نحن فيه، وهكذا الحال في صحيح الحلبي (رقم 5). نعم صحيح الحلبي الذي أوردناه في روايات الكراهة ينفع هنا.

وخامساً: قد يقال بإمكان دعوى الجمع العرفي بين النصوص؛ لأنّ صحيحة الحلبي (رقم 5) وأمثالها ظاهرة في بيان مناط الحكم، فتكون بمثابة المفسّر والقرينة على أنّ ذلك التحديد الزماني إنما هو من جهة تحقّق مناط الحكم فيه عادةً أو غالباً، ولهذا وجدنا في كلمات بعض الفقهاء حديثاً عن أنّ هذا التحديد إنما هو من باب الغالب أو المظنّة، فلا تساقط ولا تحديد 30.

وهذا الجمع عرفي مقبول، ولا يوصف أصل الحمل على الغلبة ـ كما فعل بعض الفقهاء 31ـ بأنّه خلاف الظاهر ولا شاهد له، فإنّ الذي يقرأ مجموع النصوص يفهم أنّ المناط والعبرة بحال الضيق، وترك الناس في عسر ومشقة، فتحمل هذه الرواية على الحال الغالب، على تقدير إمكان قبولها في نفسها.

نعم، إذا كانت الروايات في هذا المجال متعدّدة وصادرة في فترات زمنية مختلفة وأمكنة متفرّقة فقد يستبعد هذا الحمل لو اتحدت في تحديد الرقم مثلاً.

وبهذا كلّه يظهر أنه يشكل الأخذ بخبر السكوني بعد ما تقدّم.

2 ـ رواية أبي مريم،عن أبي جعفر قال: قال رسول الله$: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه أربعين صباحاً، يريد به غلاء المسلمين، ثم باعه فتصدّق بثمنه، لم يكن كفارة لما صنع» 32.

ويناقش أولاً: بضعف السند ـ كما تقدم ـ بجهالة علي بن محمد بن الزبير الكوفي القرشي وغيره.

ثانياً: إنّه لا مفهوم لها ينفي الحرمة، وعلى تقديره تكون مثل الروايات الأخرى متقدّمةً عليه بالأظهرية، بل بالقرينية كما أسلفنا.

ثالثاً: ناقش السيد الخوئي في أصل دلالة الرواية بما ناقش خبر السكوني المتقدّم، معتبراً أنّ هذه الرواية هنا راجعة إلى بيان جهة أخلاقية تعبّداً؛ لأنّ الظاهر منها أنّ المحتكر لم يكن غرضه من الحبس الاسترباح وإنما كان نية السوء، وهو الغلاء ورفع الأسعار على المسلمين، ومعه فتكون الرواية خارجة عن بحث الاحتكار وناظرة إلى قباحة نية السوء 33.

لكنّ هذه المناقشة في غير محلّها؛ وذلك:

أ ـإنّ التعبير بـ «يريد به غلاء المسلمين» لا ينظر إلى جهة قصدية استثنائية في موضوع الاحتكار، بل الغاية المقصودة عادةً للمحتكر هي الغلاء، وإنما أضيف إلى المسلمين في الرواية لا لبيان مسألة أخلاقية، بل لبيان شناعة الاحتكار نفسه من حيث إفضائه إلى غلاء الأسعار على المسلمين المحترمين في نفوسهم وأموالهم، فتكون شرحاً لحال طبيعة الاحتكار.

ب ـإنه لم يقم دليل معتبر على أنّ الاحتكار مرتبط بنية الاسترباح، وقد تقدّم أنّ طلب زيادة الثمن إنما هو الحالة الغالبة لا أكثر.

3 ـ خبر ابن عمر،عن النبي$أنه قال: «من احتكر طعاماً أربعين ليلةً فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه…» 34.

وحاله حال سابقه سنداً ودلالةً كما تقدّم.

وعلى وزان هذه الروايات روايات أخر، تقدّمت الإشارة إلى أغلبها، وهي ضعيفة السند، وحالها حال الروايتين الأخيرتين دلالةً.

فالصحيح أنه لا يؤخذ بالتحديد الزماني في باب الاحتكار، وإنما العبرة بما يوقع آثار الاحتكار، وهنا لا مانع من أن تتدخّل الدولة أو الجهات المشرفة في تحديد أزمنة محدّدة في كلّ عصر أو مكان تبعاً للحال الاقتصادية فتسنّ القوانين المنظمة لهذا الموضوع تحت مظلّة المقصد الشرعي أو المؤشر القانوني العام.

5 ـ الشراء (سبيل الحصول على السلع والبضائع)

ذهب جمهور الفقهاء من أهل السنّة إلى أنه يشترط في الاحتكار أن يكون تملّك السلعة المحتكرة فيه عن طريق الشراء، بمعنى أن يقوم المحتكر بشراء هذه السلعة ثم حبسها، فلو فرضنا أنه حصل على هذه السلع المخزّنة عنده في المستودعات لا عن طريق الشراء من السوق، وإنما بجلبها من سوق أخرى، كسوق أجنبية، أو عن طريق الادّخار لما يزيد عن حاجته، أو بحبس محاصيل أراضيه الزراعية وعدم عرضها في السوق، ففي مثل هذه الحالات لا يحكم بحرمة الاحتكار، بل قد لا يكون من الاحتكار موضوعاً.

والمنقول عن بعض المالكية وأبي يوسف من الأحناف عدم الأخذ بهذا الشرط، وأنّ العبرة بحبس السلعة بما يضرّ بالعامة كيفما كان السبيل الذي حصل تملّك السلعة من خلاله.

وقد يحرّم أنصار المذاهب الأخرى هذا الحبس أو يعطون للدولة الحقّ في المنع دفعاً للضرر، لكن دون أن يصدق عنوان الاحتكار الذي هو محطّ نظر الفقهاء هنا 35.

أما على مستوى الفقه الإمامي، فقد ذهب فريقٌ من الفقهاء إلى أخذ الشراء شرطاً في الاحتكار 36، إلاّ أنّ الكثير منهم لم يأخذ بهذا الشرط أيضاً 37، وهو ظاهر الذين تحدّثوا عن الاحتكار دون أيّ تعرّض لهذا الشرط، لاسيما الرسائل العملية للفقهاء الإماميّة المتأخرين.

وإذا تمّ اختيار قيد الشراء في الاحتكار ينفتح موضوع جديد، وهو تحديد زمان الشراء وأنه في وقت الغلاء أو غيره كما سيأتي إن شاء الله تعالى، لهذا من الضروري بدايةً رصد مبرّرات أصل هذا القيد، للانتقال بعد ذلك إلى تفريعاته.

أ ـ مبرّرات قيد الشراء أو سبيل الحصول على السلعة

والذي يمكن أن يكون مستند التقييد بالشراء أحد أمرين:

الأول: مرجعية اللغة، فقد تقدّم في البحث اللغوي أنّ بعض اللغويين عبّر عن الاحتكار بالجمع والحبس، بحيث قد يفهم من كلامهم أنّ الجمع هنا بمعنى شراء السلعة من السوق، ويكون الحبس هو تخزينها والامتناع من بيعها بعد شرائها.

والجواب بما ناقشناه في محلّه سابقاً من أنّ الجمع هنا كما قد يعني المعنى المصدري قد يراد به المعنى اسم المصدري، بمعنى أن تكون السلع مخزونةً مكدّسةً في المستودعات مثلاً، وهذا هو المناسب مع الجذر اللغوي وسائر كلمات اللغويين الذين ركّزوا في المقام الأول على مقولة الحبس، فلا يظهر من اللغة أخذ قيد الشراء من السوق في مفهوم الاحتكار.

والذي لم يبد لي واضحاً أنّ العلامة شمس الدين رغم إقراره في البحث اللغوي بالتمييز بين الجمع والحبس، وأنها عنصران مستقلان متميزان مقوّمان للاحتكار لغةً، إلا أنه رفض بشدّة في موضع آخر قيد الشراء المسبق 38، فإذا قصد بالجمع مجرّد ضمّ السلع إلى بعضها بعضاً فهذا لا معنى له، وإذا قصد الشراء المسبق وقع التناقض في كلامه؛ لأنّ المفروض أنّ النصوص الشرعية المحرّمة للاحتكار تحرّم المسمّى بهذا الإسم لغةً وعرفاً، والمفروض عدم الشمول لغير ما كان فيه شراء مسبق.

الثاني: النصوص الخاصّة، وأهمها ثلاثة نصوص هي:

1 ـ ما جاء في خبر الحلي المتقدم: «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره..»؛ فإنّ ظاهر مفهوم الحصر في هذه الرواية أنّ مجرد الحبس دون الشراء المسبق ليس حكرةً، فلا يكون حراماً بعنوان الاحتكار.

2 ـ خبر أبي مريم،عن أبي جعفر: «أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه.. لم يكن كفارة لما صنع».

3 ـ صحيحة سالم الحناط، في حديثها عن حكيم بن حزام حيث جاء فيها: «.. وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه..».

فإذا أخذنا بدلالة مفهوم الخبر الأوّل مؤيّداً بالخبرين الآخرين، أمكنّا تقييد سائر المطلقات به وحصر الحرمة بحالة الشراء المسبق.

وربما أمكن إضافة المقابلة في الحديث المتقدّم: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» بحيث إنّ الذي يجلب البضائع من خارج المدينة ممدوح، وهذا يعني أنّ المحتكر ليس من يجلب البضاعة من سوق أخرى، بل هو الذي يشتريها من السوق نفسه ثم يحبسها.

وقد يناقش الاستدلال بهذه الروايات بعدّة أمور:

أولاً: إنّ رواية أبي مريم مع صحيحة سالم الحناط لا مفهوم لهما؛ لأنهما تفترضان حالة الشراء لا أنهما تنفيان غيرها، كما أن قصّة حكيم بن حزام إنما وردت في مقام بيان جمع البضاعة كلّها في مقابل توفر السلعة في السوق معروضةً للبيع عند غيره، فجاءت قصّة حكيم الذي صادف أنه اشترى البضاعة، وليست في مقام الحديث عن الشراء حتى تكون لها دلالة على الحصر والتقييد والمفهوم أساساً.

ثانياً: إنّ الخبر الأخير لا يفيد تفسير الجالب بمعنى من يأتي بالبضائع من خارج المدينة لو امتنع من بيعها، وإنما هي في مقام الحث على توفير السلعة من خارج المدينة، أي «الاستيراد» لتأمين السلعة غير المتوفرة في المدينة، فإنّ الشخص يوفر للناس سلعةً غير متوفرة بينهم فيكون مستحقاً للمدح، في مقابل المحتكر الذي يمنع عنهم السلعة ولو كانت بينهم فهو مستحقّ للذم، فجهة المقابلة بين الاثنين في توفير السلعة وعدمه، لا في مثل احتكار الجالب للسلعة وأمثاله فليلاحظ.

ثالثاً: ما ذكره بعض الفقهاء، من أنّ خبر الحلبي ـ وهو الخبر الأول ـ واردٌ مورد الغالب؛ إذ الحالة الغالبة فيمن يريد الاحتكار أن يجمع البضاعة من السوق ويشتريها ليمتنع من بيعها، أو نقول: إنه وارد لمطلق المملوك بالمعاوضة من الأوّل، بل على هذا يمكن حمل سائر الروايات أيضاً 39.

إلا أنّ هذه المناقشة لوحدها لا تفيد لاسيما في خبر الحلبي؛لأنّ مجرد إمكان الحمل على الغالب لا يعيّنه بعد ورود أداة الحصر فيها، نعم يمكن أن يكون هذا الحمل مقبولاً بمعونة المناقشة التالية وهي:

رابعاً: إنّ مقتضى الجمع مع خبر الحلبي الآخر، وهو الذي يفصّل بين وجود طعام في المصر وعدم وجوده وأنه لا يترك الناس ليس لهم طعام، أنّ القضية تابعة لترك الناس ليس لهم طعام، فتكون هذه الدلالة أقوى في الإفادة، بحيث تسمح بحمل تلك على الغالب. وقد تبنّى بعض الفقهاء هذا الأمر 40.

خامساً: ما هو الجواب الأفضل على خبر الحلبي، وهو أنّ حديث هذه الرواية ليس عن الشراء، يشهد لذلك قرينة المقابلة، فإنها قالت، «إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس»، وهذا يدلّ على أنّ نظرها إلى وجود الطعام في السوق وعدم وجوده لا إلى كيفية الحصول عليه من خلال الشراء أو غيره، وإلا لقالت الرواية: فإن كان بغير اشتراء أو كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس، فمن عدم التعرّض في الفرض الثاني المقابل لظاهرة الشراء وعدمها، يفهم أنّ حديث الشراء جاء عرضاً في مقام ذكر الحالة الغالبة 41. هذا كلّه فضلاً عن ضعف سند بعض هذه الروايات كما تقدّم.

الثالث: أن يقال بأنّ الاحتكار المتفرّع على الشراء من السوق يصدق عليه الإضرار بالناس والتضييق عليهم وعدم إعطائهم حقّهم العام في السلع المعروضة للبيع، أما لو حصل تاجرٌ ما على بضاعة من خارج السوق، كما لو تمّ ذلك عن طريق الاستيراد من الدول الأجنبية، بحيث كان السوق من البداية خالياً من هذه البضاعة، فلا يصدق أنّ للناس في هذه المدينة أو البلد حقاً عاماً حتى يصار إلى اتهام المحتكر بتفويته، وكذلك الحال في الإضرار، فكما أنه لا يجب عليه شراء هذه البضائع من السوق الأجنبية لبيعها في السوق المحلّية، فكذا عدم تخزينها حيث لا تمييز بين الحالتين.

والأمر عينه في الاستبقاء على السلع التي حصل عليها من داخل البلد بغير شراء، مثل محاصيل أراضيه الزراعية، فإنه لم تدخل هذه المحاصيل دائرة السوق المحلّية حتى يتعلّق بها حقّ عام وهكذا، ولذلك كان له ألا يزرع من الأول.

وبعبارة أخرى: هناك فرق بين قيام المحتكر بعمل إيجابي يصدق معه عنوان الإضرار أو سلب الحقّ، كأن يشتري السلع من السوق المحلّي ويحبسها، وبين مجرّد الفعل السلبي وهو أن لا يبيع ما كان عنده دون أن يكون له دور في إفراغ السوق، والأدلّة لا تستوعب الحالة الثانية، من هنا يكون هناك قصور في مقتضى الحرمة هنا.

وقد ناقش الشيخ شمس الدين في أصل مسألة الحقّ العام في باب الاحتكار، بأنه لا وجه معقول لفكرة الحقّ العام هذه؛ إذ لو أريد منه حقٌّ من نوع ملكية المجتمع للمال أو سلطنته عليه، فهذا مخالف لضروريات التشريع في أنه لا سلطنة ولا ملكية على المال من غير مالكه بالملكية الخاصّة، وأما إذا كان المراد معنى التعاون والتضامن والتكافل ومسؤولية القادر على سدّ حاجات الناس، فلا فرق في هذا المعنى بين ما كان داخل البلد وخارجه حتى يتمّ التمييز بين المستورد وغيره في بعض الكلمات، بل لا يفيد سوى رجحان البذل.

وأما إذا كان المقصود أن نتاج كلّ بلد لأهل ذلك البلد حقّ فيه، فيكونون أولى به دون ما أتى من الخارج فيكون الأولى به جالبه، فهذا تفريق في حكم المال بالنسبة إلى مالكه بلا دليل من شرع أو عقل؛ لأن الأولى بالمال دوماً هو مالكه لا غيره.

يضاف إلى ذلك أنه أيّ مانع من إلزامه بالزرع من باب الواجب الكفائي النظامي، وحتى لو سلم له أن لا يزرع فلا تلازم بينه وبين أن لا يبيع، وتكون النتيجة أنّ هذا المدخل لمعالجة الموضوع غير صحيح من الأوّل 42.

ويمكن التعليق هنا:

أولاً: إن فكرة الحقّ العام هنا لا تعني دخول غير المالك بالملكية الخاصّة شريكاً مع المالك حتى يجعل ذلك مخالفاً لضروريات الشرع، بل بمعنى أنّ السلع التي تشكّل حاجيات المجتمع ـ سواء كانت نتاجاً للمجتمع نفسه أم لخارجه ـ يثبت للمجتمع حقّ في الحصول عليها بما لا ينافي ملكيّتها الخاصّة من رأس، فنحن نتحدّث هنا عن حقّ لا عن ملك، ولهذا يجب كفايةً تأمين هذه الحاجيات لأفراد المجتمع ولو بالبدل، فإنّ هذا هو الواجب النظامي كما حقّقناه في محلّه. فالمطلوب توافر السلع الضرورية في السوق ولو بأسعارها، وأين هذا من مخالفة الضرورة؟! نعم غايته مخالفة إطلاق السلطنة، وهي مخالفة يرتكبها الشيخ شمس الدين نفسه بمنعه من الاحتكار شرعاً.

ثانياً: لا تقف فكرة الحقّ العام هنا ـ بناءً على الأخذ بها ـ لتصحيح التمييز الذي ذكر في أصل الدليل، بمعنى أنه قد يفرض عدم الشراء لكن مع ذلك يثبت الحقّ العام؛ لأنّ الذي يقول بالحقّ العام هنا يرى أنّ معروضية السلعة في السوق يثبت في موردها حق عام، ومعه فيمكن أن يكون المحتكر قد اشترى البضاعة من السوق الأجنبية أو كانت نتاجاً لأراضيه الزراعية أو مصانعه المنتجة، ثم عرضها في السوق فتعلّق بها الحقّ العام، فحرم احتكارها عليه مع أنه لم يتحقق عنوان الشراء هنا.

فإذا كان الحقّ المذكور ثابتاً بصرف النظر عن عرضها في السوق وإنما بنفس وجودها عند التاجر، فلا فرق بين الشراء وغيره، وإذا كانا العرض هو العنصر الموجب لثبوت هذا الحقّ العام فقد تحقّق أيضاً، فلا يصحّ وفق هذا الدليل القول بقيدية الشراء.

ثالثاً: إنّ من يقول بفكرة الحقّ العام هنا في السلع الضرورية بإمكانه أن يلتزم بالوجوب الكفائي حتى على مستوى عرض المحصول الزراعي أو الصناعي الخاص أو الحصول عليه من السوق الأجنبية، تماماً كحال الواجبات النظامية الأخرى، فلا معنى للقول بأنه لم يكن يجب عليه الزرع من الأوّل، بل يمكن الالتزام به حينئذٍ في نطاق الحاجيات العامّة.

وعليه، فالقول بفكرة الضرر أو فكرة الحقّ العام لا يضيّق من قدرة الدليل على الشمول لغير حال الشراء، فالصحيح عدم أخذ الشراء قيداً في الاحتكار ولا في حكمه.

لكن لو فرض الأخذ بقيد الشراء في الاحتكار، ينفتح مجال البحث في تفصيلين هما:

ب ـ زمان الشراء

ذهب بعض فقهاء أهل السنّة إلى تقييد الشراء بأن يكون في وقت الغلاء، أما لو اشترى المحتكر الطعام في أيام الرخص وحبسه، ثم ارتفع السعر، فلا يكون امتناعه عن بيعه في هذه الحال احتكاراً، ونسب إلى بعض فقهاء الإباضية أخذ قيد الشراء وقت الرخص 43بعكس ما شرطه بعض فقهاء الجمهور تماماً.

ولا يظهر وجهٌ صحيح لهذا التمييز لا على المستوى اللغوي ولا على مستوى النصوص، إلا أن يكون المقصود أنّ الشراء يكون في أيام الرخص برجاء أن ترتفع الأسعار فإذا ارتفعت باع كما يفعله التجّار، وهذا ليس احتكاراً كما هو واضح.

من هنا، فالأدلّة المحرّمة للاحتكار لو قيّدت بالشراء فلا تقييد فيها بزمان خاص لهذا الشراء، لا وقت الغلاء ولا وقت الرخص.

ج ـ مكان الشراء

ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى التفصيل في مسألة الشراء على المستوى المكاني، فقيّدوه بأن يكون من نفس البلد أو حتى المدينة التي يجري الاحتكار فيها، فلو حصل الشراء من الخارج كالاستيراد فلا يكون هناك احتكارٌ محرّم.

والذي دفعهم إلى هذا التقييد أمور:

الأول: النبوي المتقدّم الذي ميّز بين الجالب فاعتبره مرزوقاً والمحتكر فاعتبره ملعوناً، حيث يفهم منه أن المحتكر مغايرٌ للجالب، فلا يرتبط الاحتكار بمفهوم الاستيراد.

ويناقش بما قدمناه من أنّ المراد بالجالب في مقابل المحتكر هو توفير السلعة في مقابل عدم توفيرها في السوق، لا مجرّد الاستيراد في مقابل عدمه ولو احتكر بعد ذلك، هذا فضلاً عن ضعف الحديث سنداً بطرقه الشيعية والسنية كما أسلفناه فيما مضى.

الثاني: المروي عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أنه قال: «لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب، إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكرونه علينا. ولكن أيّما جالب جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله» 44.

وقريب منه خبر عمرو بن شعيب، قال: «وجد عمر بن الخطاب ابن أبي بلتعة يبيع الزبيب بالمدينة، فقال: كيف تبيع يا حاطب؟ فقال: مدّين، فقال: تبتاعون بأبوابنا وأفنيتنا وأسواقنا، تقطعون في رقابنا، ثم تبيعون كيف شئتم، بع صاعاً، وإلا فلا تبع في سوقنا، وإلا فسيروا في الأرض واجلبوا، ثم بيعوا كيف شئتم» 45.

ويناقش أولاً: بأننا لم نلتزم بحجية سنّة الصحابي ما لم ينقل عن رسول الله$كما بحثناه في محلّه 46، ولعلّ الخليفة هنا كان يمارس سلطةً تنفيذية بحسب ما يراه من المصلحة العامة، فلا يدلّ موقفه هذا على حكم شرعي إلهي.

ثانياً: إنّ الخبر الأول ضعيف السند بالإرسال، أما الثاني فإنّ «كيف شئتم» الواردة في آخره لا تفيد الترخيص مطلقاً حتى مع الغش مثلاً، بل تفيد ما قابل ما سبقها؛ لأنّ الرجل كان يبيع بأرخص من السوق، فمنعه عمر، ثم سمح له لو جلب أن يبيع بما هو أرخص أو أغلى.

الثالث: إنّ احتكار المستورد من خارج السوق المحلّي ليس حبساً لما تعلّق به حقّ العامّة بخلاف احتكار المشتري من السوق.

وهذا قد أجبنا عنه فيما تقدّم فلا نعيد.

ونتيجة الكلام في قيد الشراء أنه ليس بقيد، وعلى تقديره فلا زمان له ولا مكان.

6 ـ الحاجة والضرورة (درجة تأثير الاحتكار)

الظاهر من كلمات كثيرٍ من الفقهاء المسلمين أنهم يأخذون في الاحتكار ـ حكماً أو موضوعاً ـ حاجة الناس إلى الموادّ المحتَكَرَة، فلو لم تكن هناك حاجة لم يكن هناك احتكار، ويفهم ذلك من بعض الروايات المتقدّمة أيضاً، مثل خبر الحلبي: «.. وإن كان الطعام قليلاً لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام»، وخبره الآخر: «.. إنما الحكرة أن تشتري طعاماً وليس في المصر وغيره». ونحو ذلك من الأحاديث والنصوص التي أخذ فيه نفي الوجود المتعلّق بمثل الطعام ممّا هو حاجة الناس نوعاً، إضافةً إلى أنّ دليل الضرر والأذية والحقّ العام قد تختصّ بحالة الحاجة لا غير.

إلا أنّ الكلام في مفهوم الحاجة ومقارنتها بمثل مفاهيم الاضطرار والضرورة والعسر والحرج والضيق والشدّة؛ لأنّ هناك قدراً من الهلامية النسبية في هذه المفاهيم، من هنا لا بدّ من التمييز الدقيق، لنرى ما هي الحالة المفروضة التي يحرم الاحتكار معها؟

الذي يفهم من الفقه الإسلامي وكلمات الفقهاء أنّ الضرورة والاضطرار هي الدرجة العليا هنا، يليها العسر والحرج، ثم مطلق الحاجة، مقابل مطلق الضيق والشدّة، وفي حين يظهر من بعض الكلمات اختصاص الضرورة والاضطرار بحالة الخوف على النفس أن تتلف 47، إلا أنّ التفسير الذي يبدو أنه المعروف بين الفقهاء هو تحقّقه بذلك أو بخوف المرض ـ حدوثاً وزيادة وطولاً وعسراً ـ أو ما شابه ذلك 48. ومن هنا تكون الضرورة في اصطلاح الفقهاء أخصّ من الحاجة، وإن ورد في بعض كلماتهم التعبير عن حالات العسر والمشقة وغيرها بالاضطرار. فإذا أخذنا الضرورة قيداً هنا كانت حرمة الاحتكار ضيّقة الدائرة على خلاف ما لو أخذنا مطلق الحاجة كما هو واضح.

ولو عدنا إلى الأدلّة لنرى ما الذي تنتجه هنا فسيظهر لنا:

1 ـإنّ دليل حرمة الإضرار لا يثبت أكثر من مورد الضرر، ففي كلّ حالة يكون فيها ضررٌ على الناس يكون الاحتكار حراماً، ومن الواضح أنّ تحديد الضرر هنا، لمّا كان عاماً غالباً، يرجع فيه إلى أهل الخبرة، وما تحدّده الدولة في هذا الإطار، ملاحظةً الحالة النوعية لا حالةً فردية، كالبطالة والكساد وضعف التنافس وتراجع جودة الإنتاج وغير ذلك مما يترك أثراً على التنمية وتقدّم المجتمع واستقراره، كما يضرّ بالخزينة العامة للبلاد، كما أنّ الجانب الشخصي يلاحظ فيه حجم الصرف المالي للأفراد قياساً بغير حال الاحتكار.

2 ـإنّ دليل الحقّ العام ـ لو ثبت ـ يعطي دائرةً أوسع؛ لأنّ التباني العقلائي في هذا المجال يفرض مطلق الحاجيات التي يحتاجها الناس ولو لم يكن عدمها في السوق موجباً للضرر بالمعنى المتقدّم.

ولعلّه يمكن القول بأنّ الدليل الأوّل يحول دون ظهور الحاجة في المجتمع، أما الثاني فهو يضمن حالة الرفاه بدرجة أكبر من الأوّل.

3 ـ لو عدنا إلى الروايات في المقام فسوف نجدها:

أ ـتارةً مطلقةً ليس فيها تقييدات توضح الجانب الذي نتحدّث عنه، مثل: الجالب مرزوق والمحتكر ملعون.

ب ـوأخرى فيها مثل قيد: «الطعام قليلاً لا يسع الناس» مما يفهم منه ـ خلافاً للشيخ شمس الدين 49ـ حالة الاضطرار؛ لأننا عندما نفرض طعاماً لا يسع الناس فنحن نفرض حالة ضرورة، حيث سيبقى بعض الناس بلا طعام، اللهم إلا إذا قيل بأنّ المراد من الطعام هنا خصوص الحنطة مع توفّر غيرها، فهنا لا تكون هناك حالة ضرورة وإنما حاجة.

والظاهر أن النوع الأوّل من الروايات ليس فيه إطلاق من ناحية الضرورة والحاجة، لأنّه بصدد الحديث عن أصل الاحتكار بصرف النظر عن مورده وتفاصيل أحكامه، فيكون النوع الثاني هو المرجع هنا.

وقد حاول العلامة شمس الدين هنا أن يبعد احتمال أنّ روايات الاحتكار واردة للحديث عن حالات الضرورة أو حتى العسر والحرج، مستنداً في ذلك إلى أنّ هذا الأمر ـ مع كثرة روايات الاحتكار وتنوّعها ـ يلزم منه لغوية هذه النصوص؛ إذ مع الاضطرار تكفي أدلّة الاضطرار كي ترفع قانون سلطنة المالكين على أموالهم. بل الظاهر من أدلّة الاحتكار أنه مفهوم خاص متميّز مخالف لمفهوم الاضطرار وحالاته وأنّ الأحكام التي جاءت متصلةً بالاحتكار مما يرجع إلى المحتكر والناس والدولة مخارجة تماماً لقضايا الضرورة والاضطرار، فمحذور اللغوية وظواهر النصوص تنفي هذا الاحتمال. بل إنّ ظاهر بعض كلمات الفقهاء أنّ مورد الحديث هو الاحتكار الذي لا اضطرار معه، ويستنتج من ذلك أنّ الاحتكار يدور مدار الحاجة لا مدار الاضطرار ولا العسر والمشقة 50.

ويمكن مناقشة هذا الكلام بعدّة مناقشات:

أولاً: إنّ ظاهر كلام الشيخ شمس الدين هو الحديث عن الاضطرار، وهنا يمكن القول: إنّ أقصى ما يفيده دليل الاضطرار هو أنه يجوز للمضطرّ أخذ مال الغير بدون إذنه، وأنّ سلطنة المالك تصبح مقيّدةً بحيث يلزمه عرض السلعة، لكن هل وجود مفهوم الاضطرار يلزم منه لغوية نصوص الاحتكار؟

الذي يبدو لي أنّ الشيخ شمس الدين لم يلتفت إلى أن نصوص السنّة في كثير من حالاتها لا تكون سوى نصوص مطبّقة للقواعد، وهذا ما سمّيناه في مباحث الأصول من حجية السنّة بالسنّة المطبّقة 51، حيث يقوم المعصوم بتطبيق قانون عام على حالةٍ ما فيصدر حكماً لهذه الحالة، منطلقاً في مبرراته من القانون العام، بحيث يبدو لنا أنه أراد إصدار حكم مستقلّ في هويته ومنطلقاته، وهذا الأمر كثير الحدوث بل هو طبيعي جداً، لاسيما وفقاً لنظرية الشيخ شمس الدين نفسه في تدبيرية السنّة، والغريب أنه صرّح في موضع آخر بأنّ نصوص الاحتكار جاءت تفصيلاً لعمومات نفي الضرر والحرج والعسر في الإسلام 52، مما يوقع كلامه في مفارقة، وعليه ليس هناك من ملزم لفرض اللغوية هنا؛ لأنّ المشرّع لا يتمكّن من وضع الدساتير العامة، بل يحتاج في بعض الأحيان لأخذ تطبيقاتها بعين الاعتبار كي يصوغ في مناخ هذا التطبيق حكماً آخر متولّداً من الأول، وهذا أمر طبيعي وعقلاني أيضاً في مجال التقنين.

ثانياً: إنّ حديث العلامة شمس الدين عن أنّ ظواهر نصوص الاحتكار تفيد تميّزه عن مثل الضرورة والاضطرار غير واضح؛ إذ نحن لا نتحدّث في المفاهيم، بل نتحدّث في الجانب التشريعي ومنطلقاته، فصحيح أنّ مفهوم الاحتكار مغاير لمفهوم الاضطرار، لكن ما المانع أن يكون الاحتكار من الناحية الحكمية مقيّداً بحال الاضطرار؟! وأما عدم ذكر الاضطرار فيه صراحةً فقد يكون لوضوح الأمر ومركوزيّته، ولا أقلّ من مفهوم العسر والحرج.

من هنا، فالحديث عن قيد الحاجة والضرورة يتبع نوعية الدليل الذي يعتمده الفقيه في الاستدلال على الحرمة، فإذا اعتمد دليل حرمة الإضرار كانت الدائرة مختلفة وأضيق مما لو تمّ الاعتماد على دليل الحقّ العام وهكذا.

7 ـ إسلام المجتمع (نوعيّة المجتمع المتأثر بالاحتكار)

لم يتحدّث الفقهاء استقلالاً عن أنّ من شروط الاحتكار حكماً إسلامُ المجتمع الذي يتم في حقّه الاحتكار، ولم يفرد له حديثاً سوى بعض المعاصرين حفظه الله 53، حيث ذهب إلى أنه لا يختصّ الأمر بالمسلمين، وإنما يشمل غيرهم ممّن هو تحت ولاية وليّ الأمر، إذ لو لم يكونوا مسلمين فهم إما أهل ذمّة أو مستأمنون، وهؤلاء جميعاً ممّن يجب حفظه واحترام ماله ونفسه، وإنما جاء ذكر المسلمين في بعض النصوص والفتاوى انطلاقاً من الحالة الغالبة أو لبيان مزيد بشاعة فعل الاحتكار 54.

ولعلّ نظره إلى حال المجتمع الإسلامي الذي قد تعيش فيه أقلّية دينية غير مسلمة، فيما يفترض أن يكون محطّ النظر أوسع من ذلك.

وما يبدو لنا صحيحاً في هذا الموضوع ـ وفقاً لما بحثناه مفصّلاً في كتاب الجهاد ـ هو أنّ كل من كان محترماً شرعاً في نفسه وماله بحيث لا تجوز أذيّته أو الإضرار به أو التضييق عليه كان الاحتكار في حقّه محرماً، وقد حقّقنا هناك أنّ الأصل في الإنسان الاحترام والحرمة إلا ما خرج بالدليل، وفي حالة غير المسلم لم يخرج سوى الحربي، وقد اخترنا هناك في تعريف الحربي بأنه المتلبّس بالحرابه بالفعل أو بالقوّة القريبة من الفعل، بحيث يصدق عليه العدوان على المسلمين، لا مطلق الكافر غير الذمي ولا المستأمن (وإن طرحنا هناك إمكانية الحفاظ على التقسيم المشهور للكافر إلى حربي وذمي ومستأمن مع إدراج غير الحربي بمفهومنا الخاصّ في الأقسام الأخرى)، وبناءً عليه فتجري الأدلّة هنا في حقّه، ولا يجوز الاحتكار حتى في غير بلاد المسلمين بالعنوان الأولي، فضلاً عن العناوين الأخرى كالتعاقد وغير ذلك.

وهذا الحكم يشمل حالة ما لو كانت الدول نفسها محتكرة بلحاظ المسلمين، فإنه لا يجوز الاحتكار على الشعب فيها إلا إذا كان شريكاً في الأمر من خلال رضاه عن سياسته وحكومته تجاه بلاد المسلمين وعدم اعتراضه أو مشاركته في تقوية مثل هذه الحكومات.

وعلى هذا الأساس، فإذا دخل الاحتكار حيّز الصراع بين الدولة الإسلامية وغيرها كان تطبيقه على المدنيين خارج البلاد الإسلامية خاضعاً للقوانين الفقهية التي بحثناها مفصّلاً في كتاب الجهاد في مسألة المدنيين.

8 ـ الشركة والانفراد (احتكار الافراد والشركات والجماعات)

ظاهر كلمات فقهاء المسلمين وكأنّ المحتكر شخصٌ واحد يقوم بأخذ البضائع من السوق والامتناع من بيعها، لكن في كثير من الأحيان لا يكون ما يمتنع المالك من بيعه بحيث يحقّق عنوان الاحتكار بما يحمله من نتائج اقتصادية واجتماعية، وإنما يشترك بعض التجّار الذين يملكون هذه السلعة في اتخاذ قرار الامتناع من بيعها، وفي هذه الحال يصدق على جميعهم عنوان المحتكر، حتى لو كان كل واحدٍ منهم لا يملك ما لو عرضه في السوق لأخرج الحال من الاحتكار إلى غيره؛ نظراً للصدق العرفي في هذه الحال، إضافة إلى وحدة الملاك في الحكم.

ولا فرق بين ما إذا اتفق التجار صراحةً على القيام بالامتناع عن بيع السلعة أو كان هناك اتفاق ضمني أو وضع ما في الحالة الاقتصادية يفرض ذلك، فليس الانفراد الشخصي قيداً في الاحتكار، بل يصدق على الشركات المساهمة والمتعدّدة الجنسية والدول وغير ذلك أيضاً. وهذا وإن لم يذكروه إلا أنّه لابد وأن يكون واضحاً حتى وفق أصولهم الفقهيّة 55 56.

 

  • 1. يظهر من بعض الكلمات في الفقه الزيدي عدم أخذ قصد زيادة الثمن في الاحتكار صريحاً، فراجع: العنسي الصنعاني، التاج المذهّب لأحكام المذهب 2: 385، نشر مكتبة اليمن؛ والسيل الجرار 3: 85.
  • 2. رياض المسائل 8: 174 ـ 175؛ وانظر: جامع المدارك 3: 142.
  • 3. شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 81 ـ 83؛ وجامع المدارك 3: 142.
  • 4. انظر: الأنصاري، المكاسب 4: 364.
  • 5. أسامة السيد عبد السميع، الاحتكار في ميزان الشريعة الإسلامية: 74.
  • 6. الأنصاري، المكاسب 4: 364؛ والعاملي، مفتاح الكرامة 12: 360؛ وشمس الدين، الاحتكار: 85 ـ 86.
  • 7. الكافي 5: 164؛ والاستبصار 3: 114.
  • 8. تهذيب الأحكام 7: 161 ـ 162؛ والاستبصار 3: 114 ـ 115؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 265؛ والتوحيد: 388؛ وعوالي اللئالي 3: 208.
  • 9. انظر: محمد مهدي شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 87 ـ 91.
  • 10. المصدر نفسه: 27.
  • 11. المصدر نفسه: 29.
  • 12. المصدر نفسه: 46.
  • 13. المصدر نفسه: 51.
  • 14. انظر: معجم رجال الحديث 7: 17 ـ 18، رقم: 3473 ـ 3474.
  • 15. المصدر نفسه 10: 166، رقم: 5979.
  • 16. المصدر نفسه 11: 240، رقم: 6940.
  • 17. انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية2: 94.
  • 18. ابن حمزة الطوسي، الوسيلة: 260؛ والطوسي، النهاية: 374 ـ 375.
  • 19. الكافي 5: 165؛ ودعائم الإسلام 2: 36؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 267؛ والاستبصار 3: 114؛ وتهذيب الأحكام 7: 159.
  • 20. انظر: مصباح الفقاهة 3: 821.
  • 21. شمس الدين، الاحتكار: 44 ـ 45؛ وانظر: آل عصفور البحراني، سداد العباد ورشاد العباد: 501.
  • 22. الأنصاري، المكاسب 4: 371؛ والمنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 28 ـ 29.
  • 23. انظر: علي الشفيعي، الاحتكار: 71.
  • 24. الخميني، البيع 3: 609.
  • 25. الروضة البهية 3: 299؛ وأحمد بن علي كاشف الغطاء، سفينة النجاة ومشكاة الهدى ومصباح السعادات 3: 159.
  • 26. انظر: مستند الشيعة 14: 50.
  • 27. النهاية: 374 ـ 375.
  • 28. الوسيلة: 260.
  • 29. الخميني، البيع 3: 608 ـ 609؛ وشمس الدين، الاحتكار: 45 ـ 46.
  • 30. انظر: موسوعة الفقه الإسلامي 6: 141.
  • 31. انظر: الروحاني، فقه الصادق 15: 180؛ ومنهاج الفقاهة 5: 191.
  • 32. الطوسي، الأمالي: 676.
  • 33. انظر: مصباح الفقاهة 3: 815.
  • 34. مسند أحمد 2: 33؛ والمستدرك 2: 11 ـ 12.
  • 35. الموسوعة الفقهية الكويتية 2: 93.
  • 36. انظر ـ على سبيل المثال ـ : الحلي، نهاية الإحكام 2: 514؛ والكركي، جامع المقاصد 4: 41؛ والنراقي، مستند الشيعة 14: 50.
  • 37. انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 192؛ والطباطبائي، رياض المسائل 8: 174؛ والنجفي، جواهر الكلام22: 484؛ والأنصاري، المكاسب 4: 371؛ والخميني، البيع 3: 416؛ وشمس الدين، الاحتكار: 51، وأحمد بن علي كاشف الغطاء، سفينة النجاة ومشكاة الهدى ومصباح السعادات 3: 159.
  • 38. انظر: شمس الدين، الاحتكار: 29، 51.
  • 39. انظر: مجمع الفائدة والبرهان 8: 25؛ ورياض المسائل 8: 174؛ وجواهر الكلام 22: 484؛ وشمس الدين، الاحتكار:50.
  • 40. انظر: رياض المسائل 8: 174؛ والأنصاري، المكاسب 4: 371؛ والمنتظري، رسالة في الاحتكار والتسعير: 52؛ والخميني، كتاب البيع 3: 612.
  • 41. راجع: مجمع الفائدة 8: 25 ـ 26؛ ورسالة في الاحتكار والتسعير: 52؛ والخميني، كتاب البيع 3: 611 ـ 612.
  • 42. محمد مهدي شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 55 ـ 57.
  • 43. أسامة السيد عبد السميع، الاحتكار: 71 ـ 72.
  • 44. الموطأ 2: 651؛ والاستذكار 6: 409 ـ 410.
  • 45. الصنعاني، المصنّف 8: 207.
  • 46. راجع: حيدر حب الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي: 349 ـ 368.
  • 47. انظر: النهاية: 586؛ ومختلف الشيعة 8: 337 ـ 338.
  • 48. انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 12: 113.
  • 49. شمس الدين، الاحتكار في الشريعة الإسلامية: 76 ـ 77.
  • 50. انظر: المصدر نفسه: 76، 77.
  • 51. انظر: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي: 249.
  • 52. شمس الدين، الاحتكار: 139.
  • 53. علي الشفيعي، الاحتكار وما يلحقه من الأحكام والآثار: 68 ـ 69.
  • 54. المصدر نفسه: 68.
  • 55. مقتبس من بحث "فقه الاحتكار في الشريعة الاسلامية".
  • 56. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.