الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

البداء

مما يرتبط بمسألتنا هذه ارتباطاً وثيقاً مسألة البداء .
و هي مما اشتهرت و عُرفت بها الامامية من فرق الشيعة ، فلهذا ، و لأنها وقعت موقع سوء الفهم عند غير الإمامية ، فذهبوا إلى أن الاعتقاد بها يستلزم نسبة الجهل إلى اللّه تعالى ، رأيت أن أعّرفها و بشيء ـ و لو قليل ـ من التفصيل توضيحاً للعقيدة و دفعاً للشبهة .

تعريف البداء

البداء ـ لغة ـ مصدر من مصادر الفعل ( بدا ) ، يقال : بدا الشيء يبدو بَدْواً و بُدُواً و بَدَاءً .
و هو بفتح الباء الموحدة . . و يستعمل في المعاني التالية :
1 ـ الظهور :
و يراد به ظهور الشيء عن خفاء و كتمان ، أي عن وجودٍ له سابق ، لا من عدم .
يقال : بدا لي من أمرك بداء ، أي ظهر لي .
و منه ما في الآيات التالية :
﴿ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ... 1
﴿ ... فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ... 2
﴿ ... وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ 3 و اكثر معاني الكلمة استعمالاً في القرآن الكريم هو هذا المعنى .
و منه أيضاً ما في الحديثين :
ـ ( إنه أُمر أن يبادي الناس بأمره ) أي يظهره لهم .
ـ ( من يبد صفحته نقمْ عليه كتاب اللّه ) أي من يظهر لنا فعله الذي كان يخفيه أقمنا عليه الحد .
و منه أيضاً قول عمر بن أبي ربيعة :
بدا لي منها معصم حين جمّرت *** و كف خضيب زيّنب ببنانِ
أي ظهر لي معصمها الذي كان مخفياً قبل رميها الجمرات .
2 ـ التغير : و يأتي هذا المعنى في تبدل القصد ، كما لو كنت عازماً على السفر يوم الاربعاء ـ مثلاً ـ ثم عدلت عن السفر يوم الاربعاء لسببٍ ما . و قيل لك : لِمَ لَم تسافرْ ؟ ، تقول : بدا لي أن ألغي السفر ، أو بدا لي أن أؤخر السفر .
و معناه : تغير رأيي على ما كان عليه .
3 ـ الاستصواب :
و هو أن تستصوب شيئاً علمتَ به بعد أن لم تعلم به ، فتقول : بدا لي أن هذا هو الصواب .
و منه ما جاء في قصة النبي يوسف ( عليه السلام ) في استصواب العزيز و أهله سَجْنَ يوسف بعدما رأوا الشواهد الدالة على براءته ، و ذلك في قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ 4 .
4 ـ النشوء :
و هو بمعنى الظهور ، لكن لا عن خفاء و كتمان ، و إنما ارتداءً ، أي الظهور بعد أن لم يكن الشيء موجوداً من قبلُ .
و بتعبير أخصر : الوجود بعد العدم .
و منه ما جاء في قصة النبي إبراهيم ( عليه السلام ) و الذين معه : ﴿ ... إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء ... 5 .
أي نشأت بيننا و بينكم العداوة و البغضاء .
هذا في اللغة .

و أما في الاصطلاح

فالبداء : هو الإِظهار أو الإِبداء في القضاء الموقوف .
شرح التعريف :
و لأن البداء يرتبط بنوع من انواع القضاء ، و هو القضاء الموقوف ، و هو ما يعرف بالقضاء غير المحتوم أيضاً ، يتوقف ايضاحه و بيان المقصود منه على بيان أقسام القضاء ، فنقول :
ينقسم القضاء الإلهي إلى قسمين : المحتوم و الموقوف ( المشروط ) .
1 ـ القضاء المحتوم ، و قد يسمى ( المبرم ) أيضاً . و يتمثل في خطين أو نوعين هما :
أ ـ القضاء الذي اختص به اللّه تعالى ، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه .
ب ـ القضاء الذي أخبر اللّه تعالى أنبياءه و ملائكته بانه سيقع حتماً .
2 ـ القضاء الموقوف ( المشروط ) :
و هو القضاء الذي أخبر اللّه تعالى انبياءه و ملائكته بان وقوعه في الخارج موقوف على أن لا تتعلق مشيئة اللّه تعالى بخلافه ، أي أن وقوعه مشروط بعدم تعلق المشيئة الالهية بخلافه .
و بعد أن تعرفنا أقسام القضاء ، نقول في علاقة البداء بالقضاء :
ـ فبالنسبة إلى القضاء المحتوم من النمط الأول الذي اختص به تعالى و استأثر بعلمه ، فانه من المحال وقوع البداء فيه ، و ذلك لان وقوع البداء فيه يلزم منه التغير في علمه تعالى ، و هو محال .
ـ و كذلك بالنسبة إلى النمط الثاني من القضاء المحتوم ـ و هو الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه و ملائكته ، و أخبرهم بانه سيقع حتماً ـ فانه من المحال أيضاً وقوع البداء فيه ، و ذلك لان وقوع البداء فيه يلزم منه أن يكذّب اللّه نفسه ، و يكذّب انبياءه و ملائكته ، تعالى اللّه عن ذلك .
و هذا التقسيم الثنائي ـ أعني تقسيم القضاء الى : محتوم و موقوف ـ مأخوذ من روايات أهل البيت ( عليه السلام ) .
و كذلك التسمية بالمحتوم والموقوف .
ففي تفسير العياشي : عن الفضيل بن يسار ، قال : « سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول :
من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة .
ومن الأمور أمور موقوفة عند اللّه يقدّم منها ما يشاء و يمحو ما يشاء ، و يثبت منها ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحداً ، يعني الموقوفة .
فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته » 6 .
و كذلك تقسيم القضاء المحتوم الى قسمين : ما استأثر به اللّه تعالى . و ما أطلع عليه ملائكته و انبياءه ، مأخوذ من روايات أهل البيت ( عليه السلام ) .
ففي ( عيون أخبار الرضا ) : ( قال الرضا ( عليه السلام ) لسليمان المروزي : إن علياً ( عليه السلام ) كان يقول : العلم علمان .
فعلم علّمه اللّه ملائكته و رسله ، فما علّمه اللّه ملائكته و رسله ، فانه يكون ، و لا يكذّب نفسه و لا ملائكته و لا رسله .
و علم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، يقدّم منه ما يشاء ، و يؤخر منه ما يشاء ، و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء 7 .
يعني أن هذا النوع من القضاء هو مصدر البداء و منه يؤخذ ، كما سيأتي .
ـ و بالنسبة الى القسم الثاني ( القضاء الموقوف ) فهو الذي يقع فيه البداء ، كما هو صريح رواية الفضيل المتقدمة .
و رواية الفضيل و أمثالها أفادت هذا من الآية الكريمة : ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ 8 .
و هذا يعني ان مصدر فكرة البداء هو الآية المذكورة ، و بخاصة أن الآية جاءت في سياق و عقيب آية هي قرينة على أن موضوع آية المحو و الاثبات هو القضاء .
و هي ـ اعني الآية التي قبلها ـ : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ 9 .
و قرينيتها بما في قوله : ﴿ ... لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ 10 .
فصرف موضوع الآية أو تأويله بغير القضاء ، كما حاول اكثر من مفسر غير سليم .
لأنه يتطلب إبطال قرينية الآية المذكورة و إثبات الموضوع التأويلي المدّعى ، بما لا يقبل الرد ، و هذا غير متأت 11 .
و بقرينية هذه القرينة يكون « الملحض من مضمون الآية : أن للّهِ سبحانه في كل وقت و أجل كتاباً ، أي حكماً و قضاء ، و أنه يمحو ما يشاء من هذه الكتب و الاحكام و الأقضية ، و يثبت ما يشاء ، أي يغيّر القضاء الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر .
لكن عنده بالنسبة الى كل وقت قضاء لا يتغير ولا يقبل المحو و الاثبات ، و هو الأصل الذي يرجع اليه الأقضية الأُخر ، و تنشأ منه ، فيمحو و يثبت على حسب ما يقتضيه هو » 12 .
و كما حدّدت و عّينت روايات أهل البيت القضاء الذي يقع فيه البداء ، و هو القضاء الموقوف ، حدّدت و عّينت القضاء الذي يصدر منه البداء ، فنصت على أنه القضاء الذي استأثر به اللّه تعالى ، ولم يطلع عليه أحداً من خلقه .
ففي ( عيون أخبار الرضا ) : « أن الرضا ( عليه السلام ) قال لسليمان المروزي : رويت عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) أنه قال : إن للّه عز وجل علمين :
علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه الا هو ، من ذلك يكون البداء .
و علماً علّمه ملائكته و رسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه » 13 .
و في ( بصائر الدرجات ) : « عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : إن للّه علمين :
علم مكنون مخزون لا يعلمه الا هو ، من ذلك يكون البداء .
و علم علّمه ملائكته و رسله و أنبياءه ، و نحن نعلمه » 14 .
و هذا القضاء أو العلم هو ما سمّته الآية الكريمة بـ ( أم الكتاب ) .
و كذلك حدّدت و عّينت الروايات الزمان الذي يقع فيه البداء و هو ( ليلة القدر ) .
ففي ( الكافي ) عن حمران : « أنه سأل أبا جعفر ( عليه السلام ) عن قول اللّه تعالى : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ... 15 ؟
قال : نعم ، ليلة القدر ، و هي في كل سنة ، في شهر رمضان ، في العشر الأواخر ، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر ، قال اللّه تعالى : ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 16 ، قال : يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل : خير و شر و طاعة و معصية و مولود و أجل و رزق ، فما قدر في تلك السنة و قضي فهو المحتوم ، و للّه فيه المشيئة » .
و استدرك السيد الطباطبائي هنا معلقاً على قوله ( المحتوم ) لدفع ما قد يتوهم من أن المراد به المحتوم بالمعنى المصطلح الذي ذكرناه ، قال : « قوله : ( فهو المحتوم و للّه فيه المشيئة ) أي أنه محتوم من جهة الاسباب و الشرائط ، فلا شيء يمنع عن تحققه الا أن يشاء اللّه ذلك » 17 .
و في ( تفسير علي بن ابراهيم ) تفسيراً للآية ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ 16 قال : « عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : قال : اذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الروح و الكتبة الى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه تعالى في تلك السنة ، فإذا أراد أن يقدم شيئاً أو يؤخره ، أو ينقص شيئاً ، أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثم أثبت الذي أراده .
قلت : و كل شيء هو عند اللّه مثبت في كتاب ؟ .
قال : نعم .
قلت : فأي شيء يكون بعده ؟ ! .
قال : سبحان اللّه ، ثم يحدث اللّه أيضاً ما يشاء تبارك و تعالى » .
« و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن ( عليه السلام ) : أي يقدّر اللّه كل أمر من الحق و من الباطل ، و ما يكون في تلك السنة ، و له فيه البداء و المشيئة ، يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء ، من الآجال و الارزاق و البلايا و الاعراض و الامراض ، و يزيد فيها ما يشاء ، و ينقص ما يشاء » 18 .
و كذلك جاء في الروايات نفي الشبهة التي أثيرت حول البداء في أنه يستلزم نسبة الجهل إلى اللّه تعالى و تنزه عن ذلك .
فعن الإمام الصادق : « من زعم ان اللّه عز و جل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه » .
و عنه أيضاً : « ان اللّه يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء ، و عنده أم الكتاب .
و قال : فكل أمر يريده اللّه فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شيء يبدو له الا و قد كان في علمه ، ان اللّه لا يبدو له عن جهل » 19 .
و نخلص من هذا كله إلى أن البداء عند الإمامية هو بمعنى الإِظهار و الإِبداء .
فهو يطابق المعنى الاول من المعاني اللغوية لكلمة البداء و هو الظهور بعد الخفاء .
و ذلك أن اللّه تعالى يظهر من علمه الخاص به القضاء المحتوم للشيء عند تحقق شرط وقوعه اذا كان في علمه تعالى أن شرطه سيتحقق ، أو عند عدم تحقق الشرط اذا كان في علمه تعالى أن الشرط لن يتحقق .
و كما جاء في روايات أهل البيت و اتباعهم من الامامية ما يدل على البداء ، جاء أيضاً في روايات الصحابة و اتباعهم من أهل السنة ما يدل على البداء .
و منه :
1 ـ ما رواه البخاري باسناده عن عبد الرحمن بن أبي عمرة : « أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) يقول : إن ثلاثة في بني اسرائيل : أبرص وأقرع وأعمى ، بدا للّه أن يبتليهم فبعث اليهم ملكاً فأتى الابرص فقال : أي شيء أحب اليك . . الخ » 20 .
و جاء في تعليقة الناشر على قوله ( بدا ) ما نصه : « أي سبق في علم اللّه فأراد اظهاره » .
و هو البداء الذي يقول به الامامية تماماً .
2 ـ ما رواه الترمذي عن سليمان : « قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) : لا يرد القضاء الا الدعاء ، ولا يزيد في العمر الا البر » 21 .
3 ـ ما رواه ابن ماجه عن ثوبان : « قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) : لا يزيد في العمر الا البر ، و لا يرد القدر الا الدعاء ، و ان الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها » 22 .
4 ـ ما روي عن عمر و ابن مسعود و أبي وائل في دعائهم : « إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم ، أو في الأشقياء فامحني منهم » 23 .
5 ـ ما روي عن ابن عباس : أن للّه لوحاً محفوظاً ، للّه تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة و ستون نظرة ، يثبت ما يشاء و يمحو ما يشاء » 24 .
6 ـ ما روي عنه أيضاً : « الكتاب : اثنان : كتاب يمحو اللّه ما يشاء فيه ، و كتاب لا يغير ، و هو علم اللّه و القضاء المبرم » 25 .
7 ـ « و في الحديث عن ابي الدرداء : أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء » 24 .
8 ـ « و قال الغزنوي : ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لاحاطة بعض الملائكة فيحتمل التبديل ، و احاطة الخلق بجميع علم اللّه تعالى ، و ما في علمه تعالى من تقدير الاشياء لا يبدل » 24 .
9 ـ ما رواه البخاري من قصة المعراج ، و هو طويل ، و ما يرتبط منه بموضوعنا هنا قوله: « فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة على امتك كل يوم و ليلة » .
و قوله الآخر الذي جاء بعد قص مراجعة النبي محمد لموسى و تردد النبي محمد ( صلى الله عليه و آله ) على الجبار تعالى يسأله تخفيف عدد الصلوات المكتوبة :
«فقال الجبار : يا محمد .
قال : لبيك و سعديك .
قال : إنه لا يبدل القول لديّ كما فرضتُ عليك في أُم الكتاب ، قال : فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، و هي خمس عليك » 26 . طبعة المنيرية . .
و تفهم دلالة الحديث على البداء صراحة مما علقه عليه مؤلفو الكتيب الصادر عن ادارة مجلة ( الأزهر ) المصرية المعنون ب( الاسراء و المعراج ) إعداد لفيف من العلماء و القسم الخاص منه بالمعراج أعده الشيخ توفيق إسلام يحيى ، قال تحت عنوان ( شرح الحديث ) في صفحة 70 ما نصه :
« 7 ـ ما الحكمة في وقوع المراجعة مع موسى عليه السلام دون غيره من الانبياء ، و كيف جاز وقوع التردد و المراجعة بين محمد و موسى عليهما الصلاة و السلام ؟
أجيب : بان موسى عليه السلام كان أول من سبق اليه حين فرضت الصلاة ، فجعل اللّه ذلك في قلب موسى عليه السلام ، ليتم ما سبق من علم اللّه تعالى من أنها خمس في العمل و خمسون في الثواب .
و جاز وقوع التردد و المراجعة لعلمهما أن التحديد الأول غير واجب قطعاً ، و لو كان واجباً قطعاً لما كان يقبل التخفيف و لا كان النبيان يفعلان ذلك » .
و منه أيضاً :
ما جاء في دعاء ليلة النصف من شعبان المعروف عند أهل السنة : « اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً أو محروماً ، أو مقتراً عليّ في الرزق ، فامحُ اللهم بفضلك شقاوتي و حرماني و تقتير رزقي ، فانك قلت و قولك الحق : يمحو اللّه ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب » 27 .
و قد هاجم الشيخ محمد كنعان مؤلف ( مواهب الجليل ) هذا الدعاء هجوماً عنيفاً ، و قال : « لا يجوز الدعاء به لان ما سبق تقديره لا تبديل له » .
أقول : لو صح الاعتماد على هذا الدعاء فنقد الشيخ كنعان يتم بناء على تفسير ( أم الكتاب ) بالاصل الذي لا يتغير منه شيء ، و هو ما كتبه اللّه تعالى في الأزل ، كما جاء في تفسير الجلالين 28 ، و كما هو المشهور ، و أريد في الدعاء أن المحو و الاثبات يقع فيه .
أما على مثل قول ابن عطية بأن أصوب ما يفسر به ( ام الكتاب ) أنه ديوان الامور المحدثة التي قد سبق في القضاء ان تبدل و تمحى أو تثبت » 29 .
أو أن المقصود في الدعاء الاستشهاد بالآية الكريمة في أن هناك محواً و اثباتاً ، و ليس قوله ( ام الكتاب ) من موضع الشاهد أو الاستشهاد ، و انما ذكر لانه تتمة الفقرة من الآية الكريمة .
فلا يتوجه نقد كنعان ، و يبقى الدعاء دالاً على البداء .
و أولى من ذلك أن نقول : إنه ورد في القرآن الكريم ما يدل على البداء المروي عن أهل البيت ( عليه السلام ) كما في الآية الكريمة : ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ... 30 ، فان الآية قد تفسر بان اللّه تعالى حينما قال : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ 31 : إنه لم يكن يعلم بأن في المسلمين ضعفاً يمنعهم من أن يقابل العشرون منهم المائتين من الكافرين ، و المائةُ الألف ، ثم علم بعد ذلك فخفف عنهم بما أنزله من قوله تعالى : ﴿ ... فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 30 .
لكن هذا لا يصح بأي وجه من الوجوه لانه يستلزم نسبة الجهل اليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً .
و عليه :
لا يتأتى أن يفسر قوله تعالى ( علم ) بما ينفي شبهة الجهل المشار اليه إلا في ضوء البداء .
بمعنى أن اللّه أبدى و أظهر ما كان يكنه من علمه الخاص الذي لم يطلع عليه رسول ( صلى الله عليه و آله ) فاستبدل بالأمر أمراً .
و من البداء القرآني : ما جاء في قصة فداء النبي إسماعيل حيث قال تعالى : ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ 32 .
فالوحي ( بالرؤيا ) كان بالذبح ثم تغير الذبح الى الفداء ، و هذا لا يتأتى توجيهه إلا على القول بالبداء ، و هو واضح .
و منه ما في قصة قتل الخضر الغلام في قوله تعالى : ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا 33 .
يقول البيضاوي : « و انما خشي ذلك لأن اللّه تعالى أعلمه » 34 .
و يقول الهادي الزيدي : « انه لو لم يقتل ( الخضرُ الغلام ) لعاش ( الغلام ) قطعاً حتى يرهق ابويه طغياناً و كفراً كما أخبر عنه اللّه عز وجل » 35 .
فلو لم يُقل بالبداء هنا لاستلزم الأمر تغيّر علمه تعالى عن ذلك .
و فيما يترتب على الإيمان بالبداء من آثار اعتقادية و علمية يقول استاذنا السيد الخوئي:
«و البداء إنما يكون في القضاء الموقوف المعبَّر عنه بلوح المحو و الاثبات .
و الالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل الى اللّه سبحانه ، و ليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته و جلاله .
فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم تحت سلطان اللّه و قدرته في حدوثه و بقائه ، و أن ارادة اللّه نافذة في الاشياء أزلاً و أبداً .
بل و في القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الالهي و بين علم المخلوقين .
فعلم المخلوقين ـ و ان كانوا أنبياء أو أوصياء ـ لا يحيط بها أحاط به علمه تعالى ، فان بعضاً منهم و ان كان عالماً ـ بتعليم اللّه إياه ـ بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم اللّه المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فانه لا يعلم بمشيئة اللّه تعالى ـ لوجود شيء ـ أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره اللّه تعالى به على نحو الحتم .
و القول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى اللّه و طلبه اجابة دعائه منه و كفاية مهماته ، و توفيقه للطاعة ، و إبعاده عن المعصية .
فان إنكار البداء و الالتزام بان ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة ـ دون استثناء ـ يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه ، فان ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة ، و لا حاجة إلى الدعاء و التوسل ، و ان كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبداً ، ولم ينفعه الدعاء و لا التضرع ، و إذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه ، حيث لا فائدة في ذلك .
و كذلك الحال في سائر العبادات و الصدقات التي ورد عن المعصومين ( عليه السلام ) أنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد .
و هذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليه السلام ) من الاهتمام بشأن البداء .
فقد روى الصدوق في كتاب ( التوحيد ) باسناده عن زرارة عن أحدهما ( يعني الإمامين الباقر و الصادق ) ( عليه السلام ) قال : « ما عُبد اللّه عز و جل بشيء مثل البداء ) .
و روي باسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : قال : « ما بعث اللّه عز و جل نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال :
الإقرار بالعبودية .
و خلع الانداد .
و أن اللّه يقدّم ما يشاء و يؤخر ما يشاء » .
و السر في هذا الاهتمام أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن اللّه غير قادر على أن يغّير ما جرى عليه قلم التقدير ، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً .
فان كلا القولين يؤيس العبد من اجابة دعائه ، و ذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه » 36 .
و الآن ـ و بعد أن تبيّنا ما هو البداء ، و أنه اعتقاد سليم لا نسبة فيه للجهل الى اللّه تعالى ، و أن إنكاره يؤدي إلى نسبة العجز إلى اللّه تعالى عن ذلك ـ قد يكون من المفيد أن أشير إلى أن أكثر من ذكر البداء كعقيدة امامية استخدام في تعبيره عنها لغة النبز و التهكم .
و من المعلوم منهجياً أن مثل هذه اللغة تبعّد البحث عن النزاهة و الباحث عن الموضوعية و الصدق .
فكان الاولى أن تبحث المسألة بحثاً علمياً مقصوداً به وجه الحق في القبول و الرفض 37 .