مجموع الأصوات: 9
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 724

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التنوير الديني واعمال العقل

عندما تحدث لنا القرآن الكريم في آيات عديدة مكية ومدنية، عن مشكلة ما وجدنا عليه آباءنا، التي اعترضت طريق الأنبياء والرسل في تبليغ رسالاتهم السماوية إلى المجتمعات التي بعثوا إليها، أراد من الحديث عن هذه المشكلة، تصوير أن الرسالات السماوية إنما جاءت لتحرير العقول، وتحريض الناس على إعمال العقل، والتخلص من ذهنية القصور في الفهم، ومن منهجية التقليد والإتباع الساكن والجامد، وحتى لا يقول الناس بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا.
وقد صور لنا القرآن حجم هذه المشكلة وخطورتها عندما ظل يذكر بها، ويلفت النظر إليها في مرات عديدة، وفي مناسبات مختلفة، وبالإشارة إلى أقوام وجماعات متعددة، لكي يدعونا إلى التأمل والتدبر في هذه المشكلة، التي يتوقف الإنسان فيها عن إعمال عقله، ويرتد إلى الوراء مبررا لعجزه وخموله، ومعطلا لعقله وفكره.
قال تعالى﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ 1 فهذه الآية تصور أن إتباع الأبآء في مثل هذا الموقف لم يكن على أساس عقلي سليم، فالبعض يتبع الأباء حتى لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا، ولا يهتدون.﴿ ... لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ... 1 ناظرة إلى جانب النظر،﴿ ... وَلَا يَهْتَدُونَ 1 ناظرة إلى جانب العمل، فالذي لا يتعقل لا يهتدي.
وقد وجد الشيخ محمد عبده ضرورة أن يتوقف ناظرا إلى قوله تعالى﴿ ... لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ... 1 حتى لا يشكل هذا العموم على بعض الافهام، وبين المعنى في تفسير المنار، على ثلاثة أوجه:
الأول: أن معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به، بل يكتفون فيه كله بالتسليم من غير نظر ولا بحث.
الثاني: أنه جاري على طريقة البلغاء في المبالغة، بجعل الغالب أمرا كليا عاما. إذ يقولون عن الضال في عامة شؤونه إنه لا يعقل شيئا ولا يهتدي إلى الصواب، ويقولون عن البليد إنه لا يفهم شيئا، وهذا لا ينافي أن يعقل الأول بعض الأشياء، ويفهم الثاني بعض المسائل.
الثالث: أنه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن أبائهم بالفعل، وإنما المراد منها أن يتبعون اباءهم لذواتهم، كيفما كان حالهم حتى لو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.
لهذا فأن القرآن الكريم جاء ليقول للناس أنكم لكم عقول، ولا ينبغي إتباع الآخرين بطريقة تجمد العقل، حتى لو كان هؤلاء آباؤكم، وهم اقرب الناس إليكم.
وهذا من منابع التنوير الديني في القرآن الكريم، الذي يدفع الإنسان لأن يتحرر من الركون إلى الاباء لمجرد أنهم يحملون هذه الصفة، فهذا لا يبرر له أن يعطل عقله، ويجمد فكره، في مقابل معرفة الحق وإتباعه. وإنما عليه أن يستشعر الثقة والشجاعة في إعمال عقله، وينزع عن نفسه حالة القداسة التي تعمي العقل، وحالة التقليد التي تجمد الفكر.
ويقارب هذا المعنى ما أشار إليه الفيلسوف الالماني امانويل كانت، في نص شهير له، عندما أجاب في عام 1784م، على سؤال طرحته صحيفة ألمانية على مفكري ألمانيا في ذلك العصر، وكان السؤال ما هو التنوير؟
فأجاب كانت إنه خروج الإنسان عن حالة قصوره، ذلك القصور الذي يكون الإنسان ذاته مسؤولا عنه. وأعني بالقصور عجز الإنسان عن استخدام فهمه دون توجيه الآخرين. وأن الإنسان ذاته هو المسؤول عن ذلك القصور، لأن السبب لا يعود إلى عيب في الفهم، وإنما يرجع إلى غياب القدرة على اتخاذ الموقف، والشجاعة في استخدام الفهم دون قيادة الآخرين. واعتبر كانت أن شعار الأنوار يتلخص في هذه العبارة: أجرؤ على استخدام فهمك الخاص.
وما ذهب إليه كانت يماثل ما أراد أن يقوله القرآن الكريم عند حديثه عن إتباع ما وجدنا عليه اباءنا، فقد أراد القرآن أن ينبه الإنسان إلى عقله، لكي يتحرر من العجز والضعف والإحساس بالقصور في الفهم2.