الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الثمار الايجابية للابتلاء

من ضمن الحقائق الثابتة التي لا مجال للشك والترديد فيها ، إن الهدف من وجود الانسان في الحياة هو أسمى بكثير من التمتع بملاذ الدنيا ، والعيش كما تعيش البهائم . فهو يدخل خلال حياته في خضم دورة تربوية تعليمية عميقة الأثر في كيانه ، ثم يخرج منها إما الى جنة عرضها السماوات والأرض ، لا توصف نعماؤها ولا تدرك لذائذها ؛ وإمّا الى نار سجرها جبارها لغضبه ، حيث تنعدم منها الرحمة والأمان .
ولو عرف الانسان هذه الحقيقة وأدركها لاستقامت حياته ، ولاستطاع أن يتفوق على جميع المؤثرات ، ويتحدى كل المتغيرات .

ولكن كيف يتسنى لنا ان نعرف هذه الحقيقة ؟
من الأمور والظواهر المشهودة في حياتنا أننا إذا أُصبنا في أموالنا أو أبنائنا وما الى ذلك ، فان أنظارنا تتركز عادة على ذات المصيبة ، فنسأل أنفسنا قائلين : لماذا نزلت بنا هذه المصيبة ، ولماذا خصتنا دون غيرنا ؟ في حين إن من الأجدر بنا أن نعي ظروف المصيبة وخلفياتها ، ونستفيد منها ـ بالتالي ـ كمنهاج تربوي لنا في حياتنا .

كيف تعامل الائمة مع المآسي ؟

ونحن نستطيع أن نلمس بشكل مباشر هذ الحقيقة في واقعة الطف ، التي لا يشك أحد في أنها كانت أعمق أثراً ، وأوسع نطاقاً من أي مصيبة أخرى . ففي صلب أجواء هذه المصيبة كانت للإمام الحسين عليه السلام كلمات وخطب تتفجر منها الحكمة ، وتفيض منها الروح الايمانية الصلبة ، والنور الإلهي البهي . فكلماته عليه السلام التي انطلقت من صميم واقع المصيبة كانت تعبر عن العمق الإيماني ، والروح الوثابة في جبهة الإمام الحسين عليه السلام .
وهكذا الحال بالنسبة الى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام؛ ففي اللحظات الأخيرة من حياته وهو يعاني من ألم السم القاتل الذي دسه إليه معاوية ، دخل عليه جنادة طالباً منه أن يوصيه ، فيبادر الإمام الى تقديم وصيته له قائلاً : " . . . واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ، وإذا أردت عزاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذلِّ معصية الله الى عزِّ طاعة الله عز وجل ، . . ." 1 .
ولا ريب إن هذه الوصايا لم تكن مجرد كلمات عابرة يطلقها إنسان يحتضر ، ويكاد جسده يتفجر من الألم ، بل هي كلمات تفيض حكمة ورشداً وروحاً إيمانية . . وفي ذلك دلالة كبرى على مدى استيعاب الإمام عليه السلام لحكمة الحياة ، فقد استطاع بشخصيته العظيمة أن يتجاوز حدود المأساة .
وهنا تنبغي الاشارة الى حقيقة هامة ، وهي إن الإنسان الذي سرعان ما يستسلم للمصيبة ، ولا يخطر على باله أن يقاومها ويتحداها ، إنما هو إنسان ضعيف لم يترسخ الايمان في قلبه ، ولم تطمئن نفسه ولو للحظة واحدة . كما أنه لا يمتلك رؤية مستقبلية الى الحياة ، بل ينظر الى لحظته التي يعيشها فقط .

المصائب ضرورية

وبناءً على ذلك فان المصائب التي تتوالى على الانسان ضرورية لبناء شخصيته ، بالرغم من عدم رغبته في أن تنـزل عليه . ومع ذلك فلولاها فانه لا يستطيع أن ينتبه الى خطائه ، ونقاط الضعف في شخصيته ، ولولاها لما عرف قدره ومكانته في الحياة . فمن ضمن فوائد المصيبة أنها تنقذ الانسان من الغفلة ، وتذكره بواقعه .
والقرآن الكريم ينبهنا في سورة الانعام ، وعبر آيات عديدة إلى الثمار الايجابية للمصائب والصعوبات التي يلاقيها الانسان في حياته ، فيقول عز وجل في هذا المجال : ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ 2.
والآيات السابقة تبين لنا أن الانسان قد يصاب أحياناً بالغفلة حتى عن الله سبحانه وتعالى ، وحينئذ يأتي دور المصائب لتعيده الى ذكره ـ تقدست أسماؤه ـ وتوسع من آفاق معرفته . وفي هذا المجال يروى إن رجلاً جاء الى الإمام الصادق عليه السلام ، وقال له : ياابن رسول الله دلني على الله ما هو ، فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيّروني ؟ فقال له : يا عبد الله ؛ هل ركبت سفينةً قطّ ؟ قال : نعم . قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم . قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ قال : نعم . قال الإمام االصادق عليه السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث" 3 .
ومن هنا نفهم أن حالات المصائب والرزايا تقرب الانسان الى الله تعالى ، وتزيد من معرفته به . وهل هناك نعمة أكبر وأعظم من نعمة معرفة الله تبارك وتعالى ، هذه النعمة التي تعد خير الدنيا والآخرة ، وهل هناك نقمة أشد من نقمة الضلالة والغفلة عنه عز وجل ؟
وعند نزول المصائب لا يتعلق الانسان المؤمن بشئ غير الله ، وهذا ما يقودنا الى التوجه نحو رب العزة دائماً وأبداً ، وبذلك نتحدى المصائب . فهي عندما تلم بنا فاننا سنرفع رؤوسنا وأيدينا متضرعين ، طالبين من الله تعالى أن يرفعها عنا ، وييسر أمورنا . فهو القادر وحده على كشفها .
وعلى الانسان أن يستدل من خلال زوال المصائب عنه ، وخلاصه منها ، أن هناك قوة فوق هذه القوى ، ألا وهي قوة الله تعالى .
وفي مثل هذه الظروف التي نمر بها يجدر بنا أن نزداد إيماناً ، وضراعة الى خالقنا من خلال إستغلال الدقائق والساعات والأيام في التوجه الى الله والتضرع إليه . فهو جل شأنه يباهي ملائكته بعبده المؤمن الذي يقوم من نومه ، ويصلي له ركعات في جوف الليل ، ويدعوه بأحسن الدعوات ، ويتبتل إليه ، ويعرض له حوائجه ، فانه مجيب دعوة المضطرين ، ونصير المظلومين .

التضرع هدف الإبتلاء

وتشير الآيات القرآنية السابقة الى أن المشاكل والمصائب كانت تتوالى على كل أمة من الأمم مع مجئ كل نبي مرسل إليها ، الى درجة أن البعض كان يعترض على نبي زمانه بأنه لو كان حقاً نبياً مرسلاً فلماذا كل تلك المصاعب والأزمات التي يمرّ بها ؟ إلاّ أنهم لوكانوا قد تبصروا في تلك المصاعب والأزمات لأدركوا أنها لم تنزل عليهم إعتباطاً ، وإنما ضمن هدف وحكمة بالغة من الله سبحانه ؛ منها إثارة عقل الانسان ، وتنمية إرادته ، وتوسيع أفقه ، وبعث مواهبه ، وإثارة حوافز الخير عنده . . ولذلك يقول تعالى في بيان فلسفة الابتلاء : ﴿ ... لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 4.
إن حالة التضرع الى الله جل وعلا تمثل قمة سامقة في سماء الايمان ، لا يبلغها إلاّ من تخلص من الأنانية والذاتية ، وكل حالات الجهل والتخلف والعصبيات .
ومع ذلك فاننا لم نستطع بعد أن نصل الى مستوى الضراعة ، ولذلك فان النصر لم يتنـزل علينا . فنحن ما نزال مصرين على عاداتنا التي تشوبها بعض الصفات السلبية كالاستهزاء ببعضنا البعض ، وعدم سيادة الاحترام فيما بيننا ، وبخس حقوق الآخرين . . .
فلننبذ جانباً هذه الصفات ، ولنتضرع الى الله سبحانه وتعالى ، ولو لفترة قصيرة لنرى كيف أن الله سوف يرأف بنا ، وينزل علينا نصره .
ثم يقول تعالى مشيراً الى تلك الفئة التي لا تعتبر من المصائب : ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 5.
فهناك البعض من الناس لم تنفعهم المصائب ، لأنهم لم يعتبروا بها؛ فكلما نزلت بهم مصيبة كانت كأن لم تكن شيئاً مذكوراً ، ونتيجة لذلك فقد أصبحت قلوبهم قاسية قد أحاطت بها الذنوب من جميع أرجائها .
إن مثل هذه الحالة تدعونا الى الحذر . فالأجدر بنا ـ إذن ـ أن نستغفر الله سبحانه وتعالى حال إرتكابنا أية معصية أو ذنب صغير . أمّا إذا لم يتضرع الانسان الى ربه ، فان الله سيستدرحه بإنزال النعم الوافرة عليه ، وحينئذ ينـزل العذاب عليه بغتة ، ويأخذه أخذ عزيز مقتدر .

سبيل العودة الى الفطرة

رغم إن الانسان قد زوّد بعقل يساعده على رؤية الحقائق وملامستها ، إلاّ أنه ـ في نفس الوقت ـ أبتلي بحجب من الشرك تعطّل أجهزة البصيرة عنده عن العمل ، الأمر الذي يحول دون رؤيتها .
وهناك الكثير منا يزعم أنه يعيش الحقائق بوعي ، وإحساس دقيق ، إلاّ أن هذا الزعم كثيراً ما يشوبه الخطأ . فالغالبيـة العظمى من الناس لا يعيشون إلا ظلال الحقائق ، ولعل البعض منهم يعيش أوهاماً يظن أنها هي الحقائق .

النموذج الأسمى

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأهل بيته الطاهرين ، والأولياء الصالحين ، النموذج الأسمى لادراك الحقائق ورؤيتها . فعندما يخيم الليل بظلامه الدامس ، تجد الناس يستوحشون منه ، فيسارعون إلى فراشهم ليغطوا في نوم عميق حتى ينبلج الصباح . بينما النبي وأهل بيته ومن سار على نهجهم وهداهم يأنسون بظلام الليل ، حيث يقضون الليالي في التبتل والتهجد والعبادة ، ويتأملون السماء وما فيها من الآيات الربانية بقلوب منشرحة ، وببصيرة نافذة .
ومن المعلوم إن الله سبحانه وتعالى خلق الانسان في أحسن تقويم ، وزوده بالقدرة على النطق لكي يستطيع التفاهم مع أبناء جنسه ، وجعل بينه وبين الخلق حاجات مشتركة . ولو عشنا الحقائق لأدركنا أن هذه الظواهر تمثل كتلة من مظاهر الجمال التي أنعم بها الخالق تبارك وتعالى على الانسان .
ومع ذلك فان الحجب لاتدع الانسان يتحسس مظاهر الجمال تلك ، بل تفرض عليه أن يعيش في السلبيات ، فلا يرى من الحياة إلاّ جانبها المأساوي السلبي . وهذه الحالة تدفع بالانسان عادة الى أن يسجن نفسه في زوايا ضيقة من هذا العالم الواسع دون أن ينفتح على آفاقه الرحبة ، حتى أنك تراه يفقد علاقاته مع الآخرين بصورة تدريجية .
إن هذا المنحى يخالف فطرة الانسان التي تحثه على التواصل مع الآخرين ، والانسجام مع الكون بكل موجوداته . ومن هنا يتضح لنا أن مشكلة الانسان تتلخص في أنه يعيش وراء الحجب التي تتمثل بمجموعة من الأفكار الجاهلية التي متى ما استطاع الانسان أن يتحرر منها ، ويعيش الطبيعة كما خلقها الله عز وجل ، فانه سيحقق الانجازين التاليتين :
1ـ العيش في أجواء الايجابية والتفاهم؛ فمن خلال هذه الأجواء سينظر الى جميع مآسي ومنغصّات الحياة بنظرة متفائلة دائماً .
2ـ الوصول الى مستوى النشاط والحيوية تبعا لما تمليه عليه طبيعته المتفائلة التي تأبى الكسل والخمول .
إن الذين يركنون الى الكسل ، والركود ، إنما تدفعهم الى ذلك حجب داكنة ، تمنعهم من رؤية جمال الحركة ، وتفصلهم عن ضميرهم . فنحن نرى أن مجتمعاتنا مقيّدة بأغلال من مثل الخجل ، والخوف ، والتردد . . هذه الحجب التي كرّستها التربية الخاطئة ، مما حالت دون إنطلاقة شعوبنا لتحقيق طموحاتها الحضارية . وكل ذلك يعود ـ بالدرجة الأساس ـ الى إبتعاد الانسان عن الحقائق ، وعن الفطرة النقية .

كيف يعود الانسان الى فطرته

وثمة سؤال مهم في هذا المجال هو : كيف يتسنى للانسان أن يعود الى فطرته في صفائها ونقائها ، لكي تدفعه هذه الفطرة الى التحرك والنشاط والعمل ؟
إن تحقيق هذا المكسب ممكن من خلال أحد أمرين :
1 ـ أن يدعو الانسان داعية الى ذلك ، كما كان الحال بالنسبة الى الجزيرة العربية التي كانت ترزح تحت وطأة الحجب الجاهلية ، فجاءها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، وأطلق فيها صرخته المدوية : "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" 6 . فأخرجها من ظلمات الجاهلية الى نور الاسلام .
2 ـ أن يعاني الانسان الصعوبات ، ويعيش المشاكل لكي تتضح له الحقائق عن كثب ، ويبدد بذلك كل الأوهام والظنون .
فقد يتصور الانسان أنه من المقربين الى الله تعالى ، وأن دعاءه مستجاب ، ولكن عندما تحيط به الأزمات ، وتنـزل عليه الكوارث ، فانه سيستغيث حينئذ بخالقه . ولكنه سيكتشف أن دعاءه لا يستجاب ، ذلك لأن مقاومة الأزمات ، ومواجهة المحن بحاجة الى عمل دؤوب ، وتضحيات مكثفة ، وإرادة صلبة .
صحيح إن الدعاء يعتبر ـ في حدّ ذاته ـ ممارسة مفيدة ونافعة ، ولكنه لابد أن يقترن بالعمل .
ومن هنا ينبغي علينا أن لا نعيش الأوهام ، وأن لا ننساق في تيار الأفكار الجاهلية ، والقناعات الباطلة ، بل يجب علينا أن نتوجه نحو الحقائق . فعندما تحيط بنا الملمات والمصائب ، فان من الواجب علينا أن لا نستسلم لها ، بل علينا أن نحوّلها الى وسيلة ليقظتنا . وبذلك تتهاوى الحجب ، وحينئذ سيكون بمقدور الانسان أن ينظر الى الحقائق نظرة جديدة جدية ، ويستلهم منها سبل تغيير نفسه ، وسوق مجتمعه باتجاه الكمال .
والقرآن الكريم يوجهنا الى هذه الحقائق في قوله : ﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ 7.
ففي ظل المآسي والصعاب تتساقط الافكار الجاهلية الواحدة تلو الأخرى ، وتتبدّد القناعات البالية؛ وحينئذ يتجه الانسان صوب المنقذ الحقيقي ، من خلال العودة الى الله تقدست أسماؤه .

فلسفة المآسي

وبعد ذلك يبين لنا السياق القرآني فلسفة المآسي والويلات التي تترى على البشرية ، وذلك في قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 8.
وهكذا فان الغرض من إرسال الرسل ، ونزول البأساء والضراء من كوارث طبيعية ومن حروب ، انما هو ايقاظ الانسان بعودته الى فطرته . وهذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلاّ في حالة التضرع الى الله تعالى ، ونبذ جميع الافكار الشركية التي إن أصرّ عليها الانسان معانداً مسيرة الحق فسوف يبقى يعيش في دوامة المآسي الى نهاية عمره .
ومما يؤسف له إننا وعلى الرغم من المآسي والويلات التي حلت بنا ، ترانا ما نزال نولي وجوهنا شطر الاختلاف والتفرقة . ولا يختلف إثنان في أن هذا التوجه لا يخرج عن الدائرة الجاهلية ، إلاّ أن الإصرار على ذلك هو الذي يجعلنا نرزح دائماً تحت العذاب . وهذه نتيجة طبيعية ، لأننا خالفنا بها الحقائق . أوَ لَم يقل ربنا سبحانه وتعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ... 9 أوَ لَـم يوجّهنا الى المبادرة لأداء أعمال الخير في قوله : ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ 10.
وهكذا فاننا متى ما عدنا الى تلك القيم الالهية التي تعتبر التجلي الواضح للحقائق ، فاننا سوف نعيش حينئذ السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة .

حكمة الحياة

من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الكون رحمة من لدنه ، وانتشرت آثار رحمته في كل شيء ، وخلق البشر ليرحمهم لا ليعذبهم ، فلماذا نجد في بعض الأحيان ينزل عذابه على البشر اما في صورة قحط وفقر ، أو في صورة مرض وحوادث طبيعية كالسيول و الفيضانات وما الى ذلك ، وأما في صورة الحروب الداخلية فلماذا كل ذلك ـ يا ترى ـ أوليس الله أرحم الراحمين ، أولم تتجلى رحمة الله في كل شيء ؟
إننا بفطرتنا و بمقدار عقولنا المحدودة عرفنا من ربنا الرحمة ، فمنذ أن كان الانسان نطفة في قرار مكين ، إلى أن أصبح في رحم أمه ، إلى أن خرج الى هذه الدنيا وأودع في قلب أمه وأبيه الرحمة والعطف عليه ، الى أن نما وترعرع فان حياته محاطة بآثار رحمة الله . . فما هي فلسفة العذاب في الدنيا ، وما هي فلسفة الآلام والأمراض والكوارث الطبيعية ؟
إن فلسفة كل ذلك هي إمتحان الانسان وابتلاؤه ، لأن فلسفة خلق الانسان فوق هذا الكون تختصر في الفتنة والامتحان والابتلاء . ومن عرف هذه الفلسفة يستطيع أن يجعل حياته في الدنيا حياة سعيدة ، ووجهته الى الله سبحانه وتعالى وجهة سليمة ، ومن لم يعرفها كفر وظلم نفسه وخسر حياته في الدنيا والآخرة ، وهذا هو الخسران المبين .
إننا نواجه الآن طائفة من المشاكل؛ من غلاء في بلد ، الى فقر مدقع و مجاعة في بلد آخر ، الى حرب داخلية مدمرة في بلد ثالث ، الى غزو غاشم لبلد آخر . . . و هذه جملة مشاكل ، ولا يخفى على أحد منا حجم هذه المشاكل وانتشارها . فكل واحد منا إذا فتح المذياع ، واستمع الى أي إرسال من أي اذاعة ، فان أول خبر يسمعه إما قتل ، وإما مجاعة ، وما الى ذلك . وكذلك عندما يقرأ الصحف ، لا ينتهي من خبر مزعج إلاّ ويأتيه خبر مزعج آخر . فما هي الطريقة المثلى لتعاملنا مع هذه الاخبار ؟
إنها التسلح بالبصائر القرآنية ، و فهم حكمة الوجود ، و بذلك نستطيع أن نعرف كيف نتعامل مع هذه الأمور . فالابتلاء هو حكمة الحياة؛ فالغني مبتلى بماله ، و الفقير مبتلى بفقره . . فالغني إذا أوتي من نعم الله وفضله شيئاً فعليه أن يعطي للآخرين ويسعدهم . وأما الفقير فاذا منع من فضل الله بقدر ما ، فلابد ان يصبر ، ولابد أن لا يفقد ايمانه ، ولا يفقد دينه ، ولا يفقد استقلاله . فكل من الغني و الفقير مبتليان كما يقول تعالى : ﴿ ... وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ... 11.
فالله عز وجل خلق الانسان بحيث يبتلي البعض بالبعض الآخر؛ فالقوي قوته فتنة ، والضعيف ضعفه فتنة . . وإذا أصبح الانسان قوياً فان عليه أن يستخدم هذه القوة في سبيل الله . فقد يمتلك شخص ما قوة و شجاعة ثم يقول لنفسه : سأنزل الى الشارع وأثبت قوتي على الضعفاء . في حين أن هذا السلوك ليس صحيحاً ، لأن الذي أعطاك هذه القوة إنما منحها إياك ليختبرك ، وإلاّ فانك لا تستطيع أن تطالبه بحق ، فهو باستطاعته أن يسلبها منك .
وعلى سبيل المثال فان موسى بن عمران عليه السلام كان في وضع مزر ، وكان غريباً مهاجراً مطارداً عندما كان في مدين ، وكان جائعاً ، وحسب ما جاء في رواية عن الإمام علي عليه السلام أنه قال : "وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله صلوات الله عليه ، إذ يقول : ﴿ ... رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 12والله ما سأله إلاّ خبزاً يأكله ، لأنه كان يأكل بقلة الأرض . ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه ، لهزاله وتشذب لحمه" 13 .
ولكن عندما لاحظ أن الناس جاؤوا ، وكل واحد منهم سقى غنمه ، ثم بقيت إمرأتان تذودان ، قال لهما : ما خطبكما ؟ فقالتا له : نحن نملك قطيعاً لكن أبانا شيخاً كبيراً ونحن نساء لا نستطيع مزاحمة الرجال على السقاية . فما كان منه إلاّ أن سقى لهما ، ولم يطلب أجراً؛ أي إنه إستغل قوته وعضلاته في سبيل مساعدة المستضعفين .
إن البعض يقول : أنا لا أملك إمكانيات . ونحن نقول له : لا بأس ، ولكن ألاّ تملك عضلات ؟ فإذا كنت لا تملك قوة مالية ، فانك تملك قوة جسدية والحمد لله . ومع ذلك فان البعض يقول أنه لا يمتلك لا المال و لا القوة الجسدية ، وأنا أقول له : نعم؛ ولكن عندك ماء وجه .
وهكذا فان الانسان الذي لا يملك قوة بدنية ولا مالية ، فانه يمتلك بالتأكيد ماء الوجه ، فليبذله في سبيل الله سبحانه ، لان ماء الوجه هو إمتحان للانسان وقد جاء في حديث شريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، أنه قال : "والشفاعة زكاة الجاه" 14 .
وقد يوجد شخص آخر لا يمتلك مالاً ولا قوة جسدية أيضاً ، ولكنه يتمتع بلسان طيب ، فباستطاعته أن يشجع الآخرين بالكلمة الطيبة التي هي صدقة ، فتعال واخدم الاسلام بلسانك . وفي هذا المجال يروى أن الانكسار عندما بان في جبهة المسلمين في بداية حرب حنين ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله واقفاً كالجبل الأشم ، والإمام علي عليه السلام بين يديه يضرب بالسيف ، في حين لاذ قسم من المسلمين بالفرار وثبتت ثلة منهم . فجاء النبي صلى الله عليه وآله الى عمه العباس وقال : يا عمّ أعنا بصوتك ـ وكان صوته جهورياً ـ فالتفت العباس الى الفارين ، واستنهضهم وأرجعهم بصوته .
وبناءً على ذلك فان الانسان قد يمتلك صوتاً ، أو قوة بدنية ، أو ماء وجه ، أو مالاً . . فأي شيء يمتلكه هو امتحان له . هذا بالنسبة الى القوي الذي يملك شيئاً ، أما بالنسبة الى الضعيف ، أو المطارد ، أو المهاجر فحرام عليه أن يبيع نفسه . فهناك الآن نوع جديد من سوق النخاسين ، يتمثل في أن يقال له : إنتمي إليَّ وأعطيك المبلغ الفلاني ! طيب إذا كنت مؤمناً بهذا الخط والفكر والقيادة وهذا التجمع ، فأهلاً وسهلاً ، وانتمي إليه بايمانك . أما إذا كنت غير مؤمن بهم ، ولكنك من أجل رأس المال الذي يملكونه تخضع لهم ولأفكارهم وخطهم وثقافتهم ، فان هذا يعني بيع النفس . وللأسف فان بعض الناس يقول : من يدفع أكثر أنا معه! كيف يكون ذلك ؟ إن هذا طاغوت ، والانسان الذي يتبع من لا يؤمن به طمعاً في ماله ، أو خوفاً من سطوته ، فانما يتبع الطاغوت ، في حين إن عليه أن يتبع الله عز وجل .
وفي هذا المجال يروى إن معاوية بعث عسلاً الى عائلة عمار بن ياسر ، وكانت هذه العائلة لم تأكل شيئاً لثلاثة أيام ، فأخذت طفلة من هذه العائلة قليلاً من العسل ، ووضعته في فمها ، ثم يأتي أبوها و يرى إبنته تأكل من العسل . فقال لها : أتعرفين من بعث هذا العسل ؟ إنه معاوية . فما كان من الطفلة إلاّ أن قذفت العسل .
وهكذا فان على الانسان ان يحذر؛ فالفقير فقره امتحان ، فعلينا أن لا ننظر إليه نظرة إحتقار ، إذ من الممكن أن يكون أفضل منا تقوى وإيماناً ، وإن صبره على فقره هو أكبر أجر له من الله تعالى من إحترامنا للغني . وكذلك المهاجر من بلده ، صحيح انه لا يملك وطناً ، ولكنه يملك شخصية وعنده إيمان واستقلال فلابد من احترامه وتقديره ، وفي ذات الوقت يجدر بالمهاجر أن لا يركض وراء أية راية ترفع ، بل يجدر به أن يعرف أية راية هي ، وهل هو مقتنع بها حقاً أم لا . . لأن من طبيعة الإنسان أنه يخلط المصلحة بالدين ، والهوى بالحق . . فلابد من التمييز بينهما .
وعلى هذا المنوال الصحيح مبتلى بعافيته ، والسقيم مبتلى بسقمه ، والحاكم مبتلى بقدرته ، والمحكوم مبتلى بضعفه . . فالحياة كلها إبتلاء ، وفهم حكمة الإبتلاء فيها يجعلنا نحيا حياة سعيدة .
وعلى هذا ينبغي على كل من يملك علماً أو جاهاً أو قوة . . وعلى كل من ابتلي بفقر أو ضعف . . أن يفهموا أن هذه الدنيا محفوفة بالابتلاءات ، وأنها ليست ببعيدة عن كل واحد منا ، ولا مناص لنا إلاّ ان نطلب من الله بقوته وقدرته ، وبحق نبينا الأعظم وأهل بيته أن يعيننا على أنفسنا في مزالق الحياة ، وأن لا يكلنا الى أنفسنا طرفة عين أبداً .

حكمة الوجود

عندما خرج سيدنا وإمامنا أبو عبد الله الحسين عليه السلام من مكة تلقاء العراق قاصداً الكوفة ، توافدت عليه مجموعات من المعارضين للنظام الأموي ، والقاعدين عن الجهاد . . يتساءلون عن السبب الذي دفع الإمام عليه السلام الى الخروج في هذا الوقت ، في حين إن الظروف المناسبة لخروجه ضد طاغية عصره يزيد بن معاوية لم تنضج بعد حسب تصورهم .
وقد أجاب عليه السلام كل فريق باجابة مختلفة ؛ كل حسب فهمه وظروفه وانتماءاته . فقد قال لبعض : "إنَّ بني امية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت" 15 .
وقال لمجموعة أخرى :
"كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم ، يسألوني القدوم إليهم ففعلت" 16 .
وعندما أتته أفواج مسلمي الجن ، فقالوا : يا سيدنا ؛ نحن شيعتك وانصارك ، فمرنا بأمرك وما تشاء . فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك . فجزاهم الحسين خيراً ، وقال لهم : أو ما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ... 17، وقال سبحانه : ﴿ ... لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ... 18وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون ؟" 19 محدداً لذوي البصائر هؤلاء حكمة الهية لخروجه تتصل بمهمة الأنبياء جميعاً ، والأوصياء كلهم ، لأنهم يسيرون على نهج الانبياء عليهم السلام .
فهناك أهداف وتطلعات يسعى المقربون والسابقون والصديقون الى تحقيقها ، وهذه الأهداف هي أعلى وأسمى من الأهداف السابقة ، رغم أن كليهما مشروعان .
إن الصديقين والاوصياء لا يأبهون بحسابات الربح والخسارة ، ولا يجعلون هدفهم الرئيس إسقاط هذا الطاغية أو ذاك ، بل يستهدفون الامتثال لأوامر الله تعالى؛ أي إنهم يريدون تحقيق إرادته عز وجل في الأرض .
وهناك أهداف سياسية وأخرى رسالية ينبغي على المؤمن أن يسعى لتحقيقها ، ذلك لأنه يريد إقامة حكم الله في الأرض ، وإزاحة حكم الطغاة ، وتحرير الانسان من عبودية الظالمين ، وبالتالي تحقيق الرفاه والسعادة للبشر . . وهذه هي الأهداف التي يتطلع المؤمنون المجاهدون لتحقيقها .
ومن حكم الله سبحانه في خلق الانسان ، وسائر الأنظمة والسنن التي تحوم حول الانسان؛ ابتلاؤه وفتنته واختبار إرادته . والامتحانات هذه على أقسام؛ فقد يكون الامتحان فردياً كأن يبتلى الانسان بمال حرام يحتاج إليه ، أو امرأة محرمة تشتهيها نفسه ، أو سلطة تهويها نفسه . . والانسان الفرد هو الذي يمتحن في هذا المجال .

الامتحان الجماعي

وهناك إمتحان آخر على مستوى أعلى ، وهو إمتحان المجتمع ككل؛ بحيث يوضع الناس كلهم في غربال ويغربلون ليعرف من الصامد ، ومن المتهاوي ، ومن الذي كان يجري وراء المناصب ، ومن الذي يبحث عن الحق ، ومن المستقيم على الطريق ، ومن الذي يتساقط يمنة وشمالاً كأوراق الخريف . .
والآيات القرآنية تبين أن الفتنة في حياة الانسان ، لابد وأن تسير في هذا الاتجاه . فالانسان في اللحظات الحرجة حيث تختلف الأهواء ، وتتناقض المذاهب ، وتعم الحيرة في إختيار الطريق المستقيم ، لابد أن يختار الطريق الذي يأمره به إمامه وقائده ، أي إن عليه أن لا يبحث عن ما تهويه نفسه ، بل عن ما يأمره به دينه .
وفي هذا المجال يقول عز وجل : ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 20.
فلابد أن نتنازل عن أهوائنا وشهواتنا الى ما يريده الله ، وأن نبحث عن القسطاس المستقيم ، والفرقان ، والحجة بيننا وبينه عز وجل . والحجة هي كلام الله ، وسيرة الرسول ، وطاعة من أمر الرسول صلى الله عليه وآله بطاعته .
ثـم يقول تعالى في وصف المنافقين : ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾ 21.
فهناك من الناس من يسير مع الرسول صلى الله عليه وآله ، ومع من هو في خطه ما سارت مصالحهم ، فان تضررت مصالحهم هذه كفوا عن نصرته . وقد أشار الإمام الحسين عليه السلام الى هذه الطائفة من الناس في قوله : "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فاذا محّصوا بالبلاء قلَّ الديانون" 22 .
إن الانسان لا يمكن فصله عن ماضيه ، ولا يمكن أن يولد في كل يوم من جديد ، بل لابد أن يتأثر في سلوكياته بالعوامل الاجتماعية والتاريخية والخط الذي كان ينتمي إليه . والقرآن الكريم يؤكد إن أولئك الذين يأمرهم الرسول بالجهاد ثم يحلفون بالله أنهم يطيعونه ، فاذا أمرهم بالخروج في ساعة الحسم والمواجهة إذا بهم ينكثون ، ويخلفون وعدهم . إن هؤلاء كانت حياتهم ، ومسيرتهم معروفتين ، وهي مسيرة المنافقين الذين يتربصون الدوائر بالمؤمنين ، فان وجدوا مؤمناً قد ابتلي إنفجرت ألسنتهم وأقلامهم ضد كل المؤمنين ليشفوا غلّ صدورهم ، ويشيعوا السلبيات بين أفراد المجتمع .
والقرآن الكريم يشير الى أن أمثال هؤلاء ينبغي معرفتهم من خلال خطوطهم السابقة ، فلا يمكن للانسان أن يكون في خط منحرف لفترة طويلة ثم يسير فجأة على الخط المستقيم ، ويبادر الى الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله والخط الرسالي دفاعاً مستقيماً . إنه في الواقع لا يدافع عن الخط الرسالي ، بل عن مصالحه .

أهم مواصفات القيادة

ويقول تعالى مؤكداً على أهمية القيادة : ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ 23، فمن أهم مواصفات القيادة حسم الصراعات ، والقضاء بين الناس بالحق ، وأن تتدخل في اللحظات الحرجة لتنقذ المسلمين من المآزق . . وعلى المسلمين بدورهم أن يلتفوا في هذه الظروف حول القيادة ، وأن لا يتطرفوا فيمرقوا عن الدين ، بل يكونوا مع القيادة أينما كانت .
وإذا ما وجدنا حركة رسالية في هذا المستوى فلنبشرها بالنصر ، لأن القرآن الكريم يقول : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ... 24.
ونحن بصفتنا مؤمنين علينا أن نطيع الله ، ونستقيم على الطريقة ، وأن لا نطغى في الأرض ، ولا نظلم أحداً ، ولا نتطرف ضد هذا وذاك ، ولا ننخدع بالحسابات السياسية العاجلة ، بل علينا أن ندع طريقنا يأخذ مجراه باتجاه خط الانبياء ، وبذلك سنضمن نصر الله تعالى بحوله وقوته .
فلابد أن نستقيم ، وأن ننظر الى واجبنا الشرعي ، وهو أن نخدم الاسلام في أي مكان كان وبكل الوسائل الممكنة . فالمهم أن نسير في الاتجاه الصحيح ، وأن يرضى عنا الخالق ، وحاشى له عز وجل أن يأمرنا بأمر فنطيعه ، ونتوكل عليه ، ويعدنا بالنصر ثم يخلف وعده .
ولو كان المؤمنون العاملون للصالحات شجعاناً متوكلين على ربهم ، لما بقي أثر من الكفر في الأرض ، ولكن المشكلة كامنة في نفوسنا .
ومعنى قوله تعالى : ﴿ ... وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ... 24إن هذا الدين من شأنه أن يتمكن ويسيطر في الأرض سيطرة كاملة ، وإذا ما ثبت وتمكن واستقر وتعمقت جذوره ، فان هذا الدين سوف يكون لمصلحة العاملين في سبيل الله . وبهذا التعبير ، أي قوله تعالى : ﴿ ... وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ... 24يبين لنا الله أن مسيرتنا تكتنفها المشاكل والمخاوف ، ولكن العاقبة ستنتهي الى أن يعيش المؤمن في زمن وفي أرض يعبد فيهما الله وحده ، وهذه النعمة تأتي نتيجة للتضحيات .
بعد ذلك يقول عز وجل : ﴿ ... وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 24. فبعد أن يسقط الله تعالى الطغاة ، ويحطم الأصنام بيد المؤمنين ، يظهر أناس يكفرون بالنعمة بدل أن يشكروها ، وتجرفهم مذاهب الدنيا ، فلا يفكرون إلاّ في مصالحهم ، وقضاياهم الشخصية .

حكمة الوجود

والنتيجة النهائية التي نستوحيها من الآيات القرآنية السابقة؛ إن علينا أن ننظر دائماً الى حكمة الوجود ، ولا نعيش في التمنيات والأحلام . فالله سبحانه وتعالى لم يخلق الدنيا لكي يفرض على أهلها عبادته كرها ، بل يريد منهم الاختبار والامتحان . فعليهم أن يسعوا ويتحركوا ويبذلوا الجهود لكي يحققوا حياة آمنة ، وعليهم أن يتقبلوا البلاء والفتنة ليعرف مدى إيمانهم ، وصدق أقوالهم . ففي حالات الرفاه ترفع شعارات كثيرة ، أما في حالة الشدة فان الأمور تختلط مع بعضها . فيجب علينا أن نجعل دائماً أفق تفكيرنا أفقاً ربانياً من خلال نظرة إلهية وبصيرة ربانية ، وأن ننتبه الى حكمة الوجود .
إن على الواحد منا ـ كمثال ـ أن لا يسيء الظن بالله تعالى بسبب إنزلاق رجله وهو في طريق ذهابه الى المسجد ، فبوقعته هذه سيحصل على ثواب مضاعف . وقد روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال : "إن الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه وتعهده بالبلاء ، كما يتعهّد المريض أهله بالطرف ، ووكل به ملكين فقال لهما : اسقما بدنه ، وضيّقا معيشه ، وعوَّقا عليه مطالبه ، حتى يدعوني فانّي اُحبُّ صوته ، فاذا دعا قال : اكتبا لعبدي ثواب ما سألني وضاعفا له حتّى يأتيني ، وما عندي خير له ، فإذا أبغض عبداً وكل به ملكين ، فقال : أصحّا بدنه ووسّعا عليه في رزقه ، وسهّلا له مطلبه ، وأنسياه ذكري ، فأنّي اُبغض صوته حتّى يأتيني ، وما عندي شرٌّ له" 25 . فان دعوت الله من أعماق قلبك فسوف تحصل على بعض الثواب ، في حين إنه عز وجل يريد لك أن تحصل على المزيد من هذا الثواب ، ولذلك يؤخر إستجابة دعائك .
إن الثواب الذي حصلنا عليه قليل ، وميزان صالحاتنا ما يزال خفيفاً ، والله يريد أن يثقل هذا الميزان من خلال الابتلاء كالاضطهاد والهجرة ، وما الى ذلك . والايمان يزداد ويتعمق في حالات كهذه ، والثواب في الآخرة يزداد ، وميزان الحسنات سيكون أرجح وأثقل من ميزان السيئات ، وعلى الانسان المؤمن أن لا يرفض قدراً من أقدار الله جل وعلا عليه .
إن الواحد منا ـ بسبب معارضته للطغاةـ قد يدخل السجن ويعذب أو يستشهد ، ولكن كل ذلك هو بلاء بسيط بالقياس الى نار جهنم وعذاب الله وسجنه الرهيب . فالانسان لا يمكن أن تنتهي حياته هناك كما يقول تعالى : ﴿ ... كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا 26.
فالعذاب لا ينتهي ، والانسان المنحرف يتحسس بالألم دائماً . والى هذا المعنى يشير الإمام السجاد عليه السلام في دعائه : "وإن يكن ما ظللت فيه أو بت فيه من هذه العافية بين يدي بلاء لا ينقطع و وزر لا يرتفع فقدِّم لي ما أخّرتَ وأخِّر عليَّ ما قدّمتَ فغير كثير ما عاقبته الفناء وغير قليل ما عاقبته البقاء " .
من دعائه عليه السلام : "إذا دُفع عنه ما يحذر أو عجل له مطلبه" .
فكل ما كان في الدنيا هو قليل ، لأن الدنيا تنتهي . وكل ما كان في الآخرة كثير ، وإن بدا ظاهره قليلاً لأنه لا ينتهي .
فلتتجه أنظارنا الى يوم القيامة ، فهذه الدنيا ليست إلاّ معبراً ، فلو دامت لغيرنا لدامت لنا أيضاً . فهي لم تَصفُ حتى للأنبياء والصديقين ، فكيف تصفو لنا . فهي دار الابتلاءات والامتحانات ، فلنحاول أن نجتازها بوجوه مبيضة لدى رب العالمين .

مصنع الرجال

الانسان لم يخلق عبثاً ، ولذلك فانه لم يترك سدى . والهدف من الحياة ، وخصوصاً حياة الانسان إمتحانه ، وابتلاء سرائره ، وليتم الله حجته عليه . وفي هذا المجال يقول تعالى في محكم كتابه : ﴿ ... وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ 27.
وهكذا فان على الانسان أن يتسلح بسلاح الحذر واليقظة . فلو غفل لحظة واحدة ، فانه سيخسر عمره كله . وهذا هو الخسران المبين .
إن أولئك الذين اختاروا الحق هدفاً ، وخططوا للوصول إليه بوعي ، واستقاموا على طريقهم ، كانت عاقبتهم خيراً . أما الذين خارت عزيمتهم ، وضعفت إرادتهم ، وأحاطت بأبصارهم الغشاوات ، فانهم سوف لا يخسرون حياتهم الدنيا فحسب ، وإنما سيخسرون أيضاً الآخرة ، وسيعضّون على أيديهم من الندم ، وهيهات أن ينفعهم الندم .

حقيقة الابتلاء في القرآن

إن المؤمنين لا يكتفون بالايمان بالله ورسالاته وكتبه لفظاً وقلباً ، وإنما يضحّون بكل ما يملكون في سبيل الله تعالى . فالايمان قد عم قلوبهم ، ولم تبق هناك أية ثغرة يتسلل من خلالها الشيطان الى قلوبهم . فلا يكفي أن يدعي الانسان الايمان بلسانه ، بل عليه أن يعمل على سدّ كلّ الثغرات التي من الممكن أن يدخل الشيطان من خلالها الى قلبه ، وعليه أن يعقد العزم منذ البدء على أن يفضّل إيمانه على مصالحه الذاتية ، وحبه لذاته ، وعلاقاته الشخصية مع الآخرين ، وإلاّ فانه سيكون عرضة لوساوس الشيطان ومكره ، فيكون مصيره بالتالي جهنم وبئس المصير .
ولقد أكد الله سبحانه وتعالى على هذه الحقيقة المرة بعد الأخرى ، وفي مواضع عديدة من القرآن الكريم كقوله تعالى : ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... 28فاذا كان في قلب الواحد منا شيء من الخبث ، فليحاول أن يخرجه في أسرع وقت ممكن ، وإلاّ فان يوماً سيأتي لا يستطيع فيه ذلك ، كما قال الإمام علي عليه السلام : "اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل" 29 . وهذا هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر ، وهو يوم القيامة .
وللأسف فان البعض قد يهمل العمل في سبيل الله ظناً منهم أن الله تعالى سيبعث لهم كتاباً ، ولكنه عز وجل يقول : ﴿ ... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ... 28، فهو سبحانه لا يطلع الناس أيّاً كانوا على الغيب بشكل مباشر ، بل يرسل إليهم رسلاً يبلغون رسالاته ، ويتلون عليهم آياته . وهكذا فان القرآن الكريم هو حجة الله علينا نحن البشر .
ثم يقول سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... 30مخاطباً المؤمنين الذين لم يكتمل الايمان في قلوبهم بعد ، وما تزال الثغرات موجودة فيها ، الأمر الذي مكّن الشيطان من دخولها ، وايجاد الفساد فيها .
ومن جهة أخرى فان الله تبارك وتعالى يستدرج الكفار ، فينزل عليهم بركات من السماء التي هي في الواقع إمتحانات وإختبارات ، كما يشير الى ذلك القرآن الكريم في قوله : ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ 31.
وقد تكون الفتنة فردية ، كأن يمتحن الانسان بأمواله وأولاده ، أو بزنا ، أو غيبة ، أو قطع رحم ، أو فساد في الأرض . . ولكن الامتحان الأكثر صعوبة ، والذي يشمل جميع أفراد المجتمع بما فيهم الصالح والطالح ، هو الامتحان الجماعي؛ ومن أبرز أنواع هذا الامتحان تسلط الظالمين ، فاذا ما قاومه المجتمع ، وتمرّد عليه ، وتمكّن منه ، واتّخذ الطريق الى تطبيق الاسلام بكل قوانينه وتشريعاته فقد نجا ، وإلاّ فانه سيهلك ، وسيكون له الخزي في الدنيا ، وسيشمله العذاب بجميع أفراده ، كما يقول تعالى : ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ... 32وفي الآخرة سيكون لهم العذاب المهين 33 .