الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

عصر النهضة.. دراسات ومناقشات(5)

5ـ مقاربات وموازنات

بعد توصيف تلك الدراسات الثلاث، أصبح من الممكن إجراء المقاربات والموازنات فيما بينها، باتِّباع المنهج المقارن، بوصفه أحد المناهج المتبعة في الدراسات العلمية.

وفي هذا النطاق يمكن الكشف عن المقاربات والموازنات الآتية:
أولاً: كتب حوراني دراسته بذهنية المؤرخ، فغلب على دراسته الطابع التاريخي والتحليل التاريخي، وكتب شرابي دراسته بذهنية المفكر الأيديولوجي، فغلب على دراسته الطابع الفكري الأيديولوجي والتحليل الفكري الأيديولوجي، وكتب جدعان دراسته بذهنية الباحث، فغلب على دراسته الطابع الفكري البحثي والتحليل الفكري البحثي.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن دراسة حوراني تفوقت من ناحية إبراز العامل التاريخي، وتفوقت دراسة شرابي من ناحية إبراز العامل الأيديولوجي، وتفوقت دراسة جدعان من ناحية إبراز العامل الفكري.
حوراني غلَّب العامل التاريخي، لكونه مؤرخاً ويعرف عن نفسه بهذه الصفة، وبوصفه أستاذاً للتاريخ، ومختصاً بتاريخ المنطقة العربية، درس مادة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد حتى تقاعده سنة 1979م، وعرف واشتهر بكتاباته ودراساته التاريخية.
وغلَّب شرابي العامل الأيديولوجي، لكونه مفكراً مسكوناً بهاجس التغيير الاجتماعي، وبوصفه معنياً بدراسة التطور الأيديولوجي في المنطقة العربية، وعرف واشتهر بكتاباته ودراساته الاجتماعية.
وكشف شرابي عن هذا العامل الأيديولوجي، في مقدمة الطبعة العربية لكتابه بالقول: «حاولت في هذا الكتاب إظهار التطور الأيديولوجي في العالم العربي الحديث، في ضوء التطور الاجتماعي والاقتصادي»، وعن هاجس التغيير الاجتماعي يقول شرابي: «إن همي الأساسي في هذا الكتاب، أن أقدم إطاراً فكريًّا يمكننا بواسطته أن نعالج واقعنا الاجتماعي والتاريخي»1.
وغلَّب جدعان العامل الفكري، لكونه باحثاً وأستاذاً للفلسفة والفكر العربي، وعرف واشتهر بكتاباته ودراساته الفكرية، وتوخى حين وضع كتابه أن يكون نصًّا كلاسيكيًّا في الفكر العربي الحديث، ولم يكن بصدد أن يؤرخ لهذا الفكر، وذلك لتأكيد الطابع الفكري له، وليس الطابع التاريخي.
وقد برهن هؤلاء الباحثون بهذه الدراسات الثلاث، على إمكانية دراسة عصر النهضة في المجال العربي الحديث، من خلال مداخل متعددة، منها المدخل التاريخي الذي استند إليه حوراني، ومنها المدخل الأيديولوجي الذي استند إليه شرابي، ومنها المدخل الفكري الذي استند إليه جدعان، إلى جانب مداخل أخرى يمكن الاستناد إليها أيضاً.
ثانياً: تعد دراسة حوراني أقرب في التعبير عن النزعة الليبرالية، بينما تعد دراسة شرابي أقرب في التعبير عن النزعة اليسارية، في حين تعد دراسة جدعان أقرب في التعبير عن النزعة الإسلامية.
هذه المفارقة لها تجلياتها الواضحة في الدراسات الثلاث، فالنزعة الليبرالية تجلت في دراسة حوراني من جهات عدة، وأوضح هذه التجليات ما ظهر في عنوان الطبعة الإنجليزية من الكتاب التي وردت فيه كلمة الليبرالي، وحددت موضوع الكتاب في دراسة الفكر العربي في العصر الليبرالي.
كما تجلت هذه النزعة في أطروحة الكتاب، التي اتخذت من العصر الليبرالي الأوروبي موضوعاً لها، وتحددت هذه الأطروحة في دراسة كيف تعامل الفكر العربي مع العصر الليبرالي الأوروبي! وكيف جابه تحدياته الكبيرة، وماذا أخذ منه! وما هي صور الاستجابة وأبعادها وتأثيراتها في ظل الهيمنة الطاغية لأوروبا في عصرها الليبرالي!
وهناك من رأى أن الأطروحة الرئيسية لدراسة حوراني، قائمة على أساس الكشف عن العصر الليبرالي في ساحة الفكر العربي، ومحاولة ضبط وتحديد وتسمية هذا العصر، في أزمنته وأمكنته، أفكاره ومفاهيمه، رجاله وشخصياته،
هذه الأطروحة وإن لم يصرح بها حوراني بشكل واضح في كتابه، وحتى في خارجه في أحاديثه وحواراته، ومع الاختلاف حولها عند البعض في المجال العربي من جهة صدقيتها وتماميتها، إلا أنها أقرب ما يقترب إلى الذهن عند البحث عن أطروحة الكتاب، وكل ذلك يبرز تجليات النزعة الليبرالية في الدراسة.
وعن النزعة اليسارية في دراسة شرابي، فلها تجليات واضحة وبينة، وأوضح هذه التجليات اعتماد شرابي على مفهوم الطبقة، بوصفه مفهوماً تفسيريًّا، وما يتفرع عن هذا المفهوم من تركيبات ثنائية مثل: الوعي الطبقي، النظام الطبقي، الفوارق الطبقية وغيرها، وهذا المفهوم كما هو واضح هو من صلب المفاهيم اليسارية، ويكاد يكون حكراً على الفكر اليساري ونظامه البياني، والاستناد إليه يأتي عادة في سياق الكشف عن النزعة اليسارية عند الكاتب، وبقصد التظاهر بهذه النزعة، والإشهار بها.
أما النزعة الإسلامية في دراسة جدعان، فهي أكثر وضوحاً وتجلياً، وتعد من أخص الخصائص التي تمسك بها جدعان في المفارقة بين دراسته ودراسات الآخرين، فقد تقصد حسب قوله، أن يستبعد «جل الاعتبارات التي يمكن أن يدخلها هذا البحث في حسابه، كالزعم بأن مستقبل الفكر العربي الحديث ينبغي أن يلتمس حقًّا وبتفرد، في واحد من التيارات الليبرالية أو العلمانية أو التغريبية التي لاقت صدى لا ينكر لدى بعض المفكرين العرب المحدثين في بعض فترات عصرنا الراهن، والتي لم يزل لها ذيول في بعض الأوساط الفكرية العربية في عدد من الأقطار ذات الماضي الاستعماري الغربي، أو الحاضر المفتوح على جو الثقافة الغربية البرجوازية، ومشتقاتها وارتكاساتها الفكرية أو الأيديولوجية»2.
وهذا ما دفع جدعان في هذه الدراسة، التمهيد لفصولها الأساسية بالإلماع إلى ما بدا له وثيق الصلة بمضمونها، مما ينتمي إلى البدايات الثقافية العربية الإسلامية، وتطوراتها في العصور الأولى، والمفكرين الذين عني بدراسة أعمالهم نظر إليهم من جهة نسبتهم الفعلية إلى الإسلام.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن هذه الدراسات الثلاث كشفت عن قراءات متعددة لعصر النهضة والإصلاح في المجال العربي، بين قراءة ليبرالية نزع إليها حوراني، وقراءة يسارية نزع إليها شرابي، وقراءة إسلامية نزع إليها جدعان.
ثالثاً: أعطى حوراني الفترة التي حاول دراستها صفة عصر النهضة، الصفة التي ظهرت في عنوان الطبعة العربية من كتابه، وهي الصفة نفسها التي أعطاها شرابي للفترة التي حاول دراستها، وظهرت كذلك في عنوان كتابه، في حين أعطى جدعان الفترة التي حاول دراستها صفة التقدم.
والمفارقة التي حصلت في هذا الشأن، تحددت في تغير صورة هذه الصفة بأشكال مختلفة عند هؤلاء الثلاثة، شكل من الشك عند حوراني، وشكل من التوقف عن شرابي، وشكل من الاستبدال عند جدعان.
شكل من الشك عبر عنه حوراني، حين سجل اعتراضاً على عنوان كتابه في طبعته العربية، معتبراً أن استعمال كلمة «النهضة» تعطي انطباعاً مختلفاً لم يقصده، وكأن المسألة «مع النهضة تبدو جديدة كليًّا، ومن دون مقدمات، علماً أن هناك استمرارية في الفكر العربي، لا تستطيع كلمة نهضة أن تعبر عنه، وقد وضعها المترجم مقابل كلمة liberal، والفرق شاسع»3.
وشكل من التوقف تمثل عند شرابي في مفارقة غير مفهومة، ففي عنوان كتابه استعمل كلمة النهضة، لكنه في متن الكتاب توقف عن استعمال هذه الكلمة، واستعمل مكانها كلمة اليقظة، الكلمة التي كان قاصداً ومدركاً لها، وذلك حين نبَّه عليها، ولفت الانتباه إليها في السطر الأول من مقدمة الكتاب، بقوله: «ارتبط المجتمع العربي منذ أقل من قرن ارتباطاً وثيقا بماضيه، واليوم لا يزال يناضل ليشق طريقه إلى العالم المعاصر، لم تكن اليقظة العربية، وهو التعبير الذي استعمله المثقفون العرب لنعت عملية التحديث، وليدة وعي فجائي عفوي»4.
وفي مكان آخر من المقدمة نفسها، وتأكيداً على كلمة اليقظة، كتب شرابي يقول: «تضمنت اليقظة العربية نوعاً جديداً من الإدراك، فجلبت معها مفاهيم للتراث التقليدي، ومحاولات للتكيف مع المعطيات الجديدة».
وفي مكان ثالث من المقدمة أيضاً، كتب شرابي يقول: «أظهرت اليقظة العربية كعملية تحديثية في ظل أوضاع معينة، ومرت عبر مراحل محددة».
وكان يفترض من شرابي أن يكون متنبهاً لهذه الملاحظة من جهتين، من جهة ما حصل من اختلاف ما بين الكلمة التي وردت في العنوان، والكلمة الأخرى المستعملة في متن الكتاب، ومن جهة الحاجة إلى تفسير هذه الملاحظة لرفع هذا النوع من التباين اللفظي والمفهومي.
وشكل من الاستبدال تمثل عند جدعان، بطريقة مقصودة وواعية حين استعمل كلمة التقدم بدلاً عن كلمة النهضة، وهذا القصد والوعي يظهر عند جدعان حين يتساءل مع نفسه بالقول: أفلا يكون الأصح أن يدور الكلام على مفهوم النهضة لا على مفهوم التقدم؟
ويرى جدعان أن هذا الاعتراض وجيه، لأن الخلط في المفاهيم أمر مجاف للدقة العلمية، ولأن جميع الدارسين للفكر العربي الحديث قد اختاروا بالفعل مصطلح النهضة، ووسموا به مجمل الإنتاج الفكري في القرنين التاسع عشر والعشرين.
واستعمل جدعان مفهوم التقدم، لأنه أراد أن يميز محاولته عن محاولات الآخرين، وأن يظهر اختلافاً معهم بصورة تامة، ومن كل الجهات.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن الفترة التاريخية المعنية بالدراسة عند هؤلاء الباحثين الثلاثة، قد تعددت أوصافها، وتنوعت توصيفاتها، بين من وصفها بعصر النهضة مثل حوراني وغيره، ومن وصفها بعصر اليقظة مثل شرابي، ومن وصفها بعصر التقدم مثل جدعان، إلى جانب من وصفها بأوصاف وتوصيفات أخرى، كعصر الإصلاح وغيره.
رابعاً: في الوجهة العامة اعتنى حوراني عن قصد واختيار، بالأشخاص الذين أعطاهم صفة المهمين والمؤثرين خلال الفترة التاريخية المعنية عنده بالدراسة، واعتنى شرابي عن قصده واختيار أيضاً، بدراسة الأطر والتكوينات الاجتماعية والأيديولوجية خلال الفترة التاريخية المعنية عنده كذلك بالدراسة، في حين اعتنى جدعان عن قصده واختيار، بدراسة وتوثيق النصوص خلال الفترة التي قاربت القرن وجاوزته.
هذا القصد والاختيار عند حوراني بالأفراد والأشخاص، أشار إليه حين فرَّق بين طريقتين في كتابة تاريخ الفكر، طريقة تعتمد على كتابة تاريخ المدارس الفكرية، وطريقة ثانية تعتمد على دراسة بعض الأفراد المختارين بسبب تمثيلهم الواسع للاتجاهات والأجيال.
وكلا الطريقتين في نظر حوراني، تعتريهما بعض العيوب والثغرات، فالطريقة الأولى التي تعتمد على المدارس الفكرية، فإنها لا تلقي ضلالاً على الفروقات الفردية عند المفكرين، وتفرض وحدة في أعمالهم هي غير صحيحة، والطريقة الثانية التي تعتمد على بعض الأفراد، فإنها قد توقع في فرض وحدانية مصطنعة على فكرهم، وجعله أكثر منهجية وتوافقية مما هو عليه حقًّا، وإعطاء هؤلاء الأفراد أهمية ليسوا أهلاً لها بالضرورة.
مع ذلك فضل حوراني اختيار الطريقة الثانية، لأنها تتيح له -حسب قوله- القيام بعمل يهمه، فقد أراد تكوين المعرفة عن أولئك الأشخاص، وأصداء المفكرين الأوروبيين الذين قرؤوا لهم، أو سمعوا عنهم، لكي يكتشف إذا كان ممكناً معرفة الزمن الذي دخلت فيه أفكار هؤلاء المفكرين الأوروبيين ساحة الخطاب الثقافي العربي، ومن جهة ثانية العمل على معرفة الصلات بين هؤلاء المفكرين العرب، ووضعهم في إطار تسلسل تاريخي، حاول حوراني من خلاله أن يخط مسيرة أربعة أجيال.
وبالنسبة لشرابي فالقصد والاختيار عنده كان واضحاً، من جهة التركيز على المثقفين لا كأفراد، إنما بوصفهم يمثلون طبقة، الأمر الذي اقتضى منه دراسة تكويناتهم الاجتماعية والاقتصادية، ويكفي للدلالة على ذلك، أنه افتتح الكتاب بفضل حمل عنوان (انبثاق طبقة المثقفين العرب)، استهله بسؤال الناقد الإيطالي أنطونيو جرامشي (1891-1937م)، هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية مستقلة، أو أن لكل طبقة اجتماعية فئتها المثقفة الخاصة بها؟
هذا السؤال اعتبره شرابي أساسيًّا لهذه الدراسة، التي سوف يتعرض فيها إلى اعتماد المثقفين على طبقات أخرى، أو اتجاه هؤلاء المثقفين نحو تكوين جماعات مستقلة ذاتيًّا منسلخة عن ولاءاتها الطبقية، سيعالج ذلك شرابي -حسب قوله- في ضوء نظام طبقي كان لا يزال في طور النشوء، إذ فكرة الوعي الطبقي في شكل ضبابي وغامض5.
وأما بالنسبة لجدعان فالقصد والاختيار عنده، من جهة التركيز على النصوص كان واضحاً وبيِّناً كذلك، فقد نبَّه في مقدمة الدراسة على أنه استكثر من النصوص، واعتبر هذا الأمر مقصوداً لذاته.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن بالإمكان دراسة عصر النهضة من خلال التركيز على الأفراد الذين مثلوا عصرهم وجيلهم، على طريقة محاولة حوراني، أو من خلال التركيز على فئات وطبقات، على طريقة محاولة شرابي، أو من خلال التركيز على نصوص، على طريقة محاولة جدعان.
خامساً: خلال الفترة التاريخية التي حاول حوراني دراستها، والممتدة ما بين (1798-1939م)، مع أنه أوصلها إلى زمن طه حسين مطلع سبعينات القرن العشرين، فإن الأشخاص الذين أرَّخ لهم حوراني خلال هذه الفترة كان منهم إسلاميون مثل الأفغاني وعبده ورشيد رضا وآخرون، وكان منهم وطنيون مثل مصطفى كامل وسعد زغلول وآخرون، وكان منهم قوميون مثل نجيب العازوري وساطع الحصري وآخرون، ومنهم أيضاً علمانيون مثل شبلي شميل وفرح أنطون وآخرون، ومنهم ليبراليون مثل لطفي السيد وطه حسين وآخرون.
وعن هؤلاء وإن كان بدرجة أقل من الإحاطة والتفصيل، تحدث شرابي خلال الفترة التاريخية التي حددها والممتدة ما بين (1875-1914م).
لكن الصورة تغيرت واختلفت عند جدعان، الذي تقصد حصر الأشخاص بفريق معين، وهم الذين يصدق عليهم وصف المفكرون المسلمون، وشرح جدعان ذلك بقوله: «إن مفهوم مفكري الإسلام يحيل في هذا الكتاب صراحة، إلى الكتّاب العرب الذين تقع تجاربهم الفكرية الأصيلة الصميمية في مجمل الفعاليات الإسلامية، أو في هذه الفعالية أو تلك منها، أولئك الكتَّاب الذين قدموا إسهاماً قويًّا، مستلهماً من الدور الذي رأوا أن الإسلام من حيث هو دين وحضارة، مدعو لأن يحتله في قضية التقدم»6.
وفي رأي جدعان وهو يتمم كلامه «إن هذا التحديد يسوغ إلى حد كبير الإحجام عن الخوض في أعمال كتاب أو مفكرين، كان بعض القراء يرجون الالتقاء بهم في هذا الكتاب، كما يسوغ أيضاً التقاء بعض القراء الآخرين، بكتاب قد يرون أنهم لم يخدموا قضية التقدم في العالم العربي الحديث، أو أنهم خلفوا وراءهم ذكرى تبعث على الجدل، ويهمني أن أنبه هنا، إلى أن عملية اختيار النماذج المدروسة، لم تخضع إطلاقاً لتوطئ شخصي من جانبي، وإنما أملتها علي رغبتي في الاستجابة للتحديد الذي يتقبل المسلمين أو الإسلاميين المحافظين، مثلما يتقبل المسلمين أو الإسلاميين الثوريين»7.
إلى جانب ذلك، أظهر جدعان موقفاً متحيزاً لهذا الفريق من المفكرين المسلمين، مصطفاً معه في التصدي لما أسماه جبهات الليبراليين والتغريبيين والعلمانيين، وحسب قوله: «ينبغي ألَّا يدهشنا كثيراً انصراف المفكرين المسلمين، إلى المواقف الدفاعية والتسويغية في هذه الفترة، فقد كانوا يتصدون لجبهات كثيرة، فهناك الليبراليون من ناحية، والتغريبيون من ناحية ثانية، والعلمانيون المسيحيون خاصة من ناحية ثالثة، ومن بعدهم مسلمون أصابتهم هم بدورهم روح العلمنة، فشقُّوا الصفوف، وخلع بعضهم الجبة ليرتدي ثوباً لم يكن يختلف في نظر المسلمين من معاصريه، وممن جاؤوا بعده عن ثوب يهوذا الذي خان سيده»8.
وهذه الفترة التي يعنيها جدعان، هي التي تلت الحرب العالمية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية، والتي ظهر فيها -حسب قول جدعان- نشاط الإرساليات التبشيرية، والمطاعن التي وجهها كتاب غربيون ومسيحيون إلى الإسلام.
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن هناك من حاول دراسة عصر النهضة بالعودة إلى أشخاص ينتمون لنزعات واتجاهات متعددة، إسلامية ووطنية وقومية وليبرالية وعلمانية، كمحاولة حوراني، أو بالعودة إلى طبقات وأيديولوجيات متعددة، إسلامية وقومية وعلمانية، كمحاولة شرابي، أو بالعودة إلى أشخاص ينتمون حصراً إلى مفكري الإسلام كمحاولة جدعان.
سادساً: إن الأشخاص الذين أرَّخ لهم حوراني على امتداد قرن ونصف قرن من تاريخ عصر النهضة، هؤلاء الأشخاص جميعهم من الرجال، ولم يؤرخ لأحد من النساء، والقدر الذي أشار إليه في كتابه الذي يقع في ترجمته العربية، في أكثر من أربعمائة صفحة، كان مجرد ذكر عابر لاسمين من الأسماء النسائية، هن الأميرة نازلي صاحبة الصالون السياسي الذي حضره سعد زغلول في وقت من الأوقات، وهو الصالون الذي اعتبره حوراني أول صالون سياسي في الشرق الأدنى الحديث.
والاسم النسائي الثاني هي هدى شعراوي، وجاءت الإشارة إليها، حين اعتبر حوراني أن فكرة مناصرة المرأة أصبحت منذ قاسم أمين، هاجس التفكير الوطني في مصر، وعدت الأيام التي سارعت فيه النساء بقيادة هدى شعراوي إلى خلع الحجاب، والاشتراك في الحياة العامة، في عداد الأيام الوطنية الخالدة حسب قول حوراني9.
وتكرر هذا الحال مع شرابي، الذي لم يأتِ على ذكر أحد من النساء، وهو يؤرخ لفترة تمتد إلى نصف قرن وتزيد، من تاريخ عصر النهضة في المجال العربي الحديث، وحتى عندما وصل إلى قاسم أمين متحدثاً عن كتابيه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)، لم يأتِ شرابي على ذكر أحد من الأسماء النسائية.
وانفرد جدعان من هذه الجهة، واعتنى بالإشارة إلى عدد من الأسماء النسائية البارزة، من هذه الأسماء اللبنانية زينب فواز (1262-1332هـ/1846-1914م)، التي اعتبر جدعان أن كتاباتها تظل من أبرز الأعمال النسائية، عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ومن هذه الأسماء أيضاً، المصرية ملك حفني ناصف (1304-1337هـ/ 1886-1918م)، التي اعتبرها جدعان أنها كانت من الإصلاحيين القلائل الذين يمتازون بعمق الحساسية، وبقوة الشعور المشخص، والاستجابة لحس الواقع.
ومن هذه الأسماء كذلك، اللبنانية نظيرة زين الدين (1326-1396/ 1908-1976م)، التي عرفت بكتابيها (السفور والحجاب) الصادر سنة 1928م، و(الفتاة والشيوخ) الصادر سنة 1929م.
إلى جانب هذه الأسماء التي عرف بها جدعان، وتوقف عندها مستطلعاً أعمالها وكتاباتها، هناك أسماء أخرى أتى على ذكرها فقط، مثل: (عائشة التيمورية، ومي زيادة، وهدى شعراوي، وخديجة المغربية الأسيوطية، وفاطمة ابنة المؤرخ أحمد جودت باشا).
ومن هذه الجهة يمكن القول: إن هناك من أرَّخ لتاريخ عصر النهضة ناظراً إلى الرجال فقط من دون الالتفات إلى النساء، مثل حوراني وشرابي، وهناك من أرَّخ ملتفتاً إلى دور النساء مثل جدعان.
سابعاً: من الناحية الدينية فإن الأشخاص الذين أرَّخ لهم حوراني بعضهم كان من المسلمين، والبعض الآخر كان من المسيحيين، واستند حوراني في الحديث عن المسيحيين إلى ثلاثة خلفيات أساسية هي:
1- يرى حوراني أن أهم النقاشات التي جرت في المنطقة العربية حول الفكر الأوروبي -قوانين ومؤسسات وأفكار– حصلت بصورة أساسية ومتواصلة في القاهرة وبيروت، وهذا ما جعل حوراني يهتم بهذين المكانين المرتبطين بعلاقات وثيقة على مستويات متعددة، خاصة بعد هجرة الكتَّاب اللبنانيين والسوريين إلى مصر، وكان أبرزهم من المسيحيين.
2- يعتقد حوراني أن أكثرية الكتَّاب اللامعين في بيروت، كانت تنتسب إلى الطوائف المسيحية في لبنان وسوريا.
3- في نظر حوراني أن المسيحيين كانوا يتفاعلون مع الثقافة الأوروبية أكثر من المفكرين المسلمين، الأمر الذي يسهم في توضيح بعض صور العلاقات مع الفكر الأوروبي، الذي هو موضوع دراسته.
وفي هذا النطاق، تحدث حوراني عن بطرس البستاني (1819-1883م)، الذي أصدر مجلة الجنان في الفترة ما بين (1870-1886م)، وجرجي زيدان (1861-1914م)، مؤسس مجلة الهلال، ويعقوب صروف (1852-1927م)، وفارس نمر (1856-1951م)، مؤسسا مجلة المقتطف، وفرنسيس مراش (1836-1873م)، وشبلي شميل (1850-1917م)، وفرح أنطون (1874-1922م)، بالإضافة إلى آخرين.
وبدرجة أكبر من العناية والاهتمام تحدث شرابي، الذي تعمد على ما يبدو لفت الانتباه كثيرا لدور المسيحيين العرب، إذ خصص فصلين كاملين للحديث عنهم في كتابه الذي يتكون من ثمانية فصول، وظل يُذكِّر بهم، بأقوالهم ومواقفهم حتى في الفصول الأخرى، مبرزاً تميزهم العقلاني والأيديولوجي والاجتماعي.
والملاحظ أن شرابي نظر إلى المسيحيين العرب بوصفهم يمثلون حالة خاصة، متمايزين في أفكارهم ومواقفهم عن باقي الفئات الأخرى، خاصة من جهة العلاقة مع أوروبا والفكر الأوروبي.
ومن الإشارات الدالة على ذلك عند شرابي، قوله: «إن الصفة المميزة للنظرة المسيحية لا تكمن فقط في كون المثقفين المسيحيين، برغم الاختلافات الفردية، أدركوا وتمسكوا بالقيم والأهداف المستمدة من الغرب، بل إنهم عملوا على ربط المسيحيين العرب بالغرب حضاريًّا، وهكذا فإن تبايناً أساسيًّا فرض حاله في موقف المسيحيين العرب من محيطهم الإسلامي، وفي المقابل ظل المسلمون ذوو القناعات العلمانية المشابهة في شكل أساسي، نافرين من الغرب، لقد أكد المسلم العلماني برغم تمسكه بالقيم الغربية والأفكار المعاصرة، على هويته الإسلامية المستقلة»10.
هذا الموقف اختلف معه، وافترق عنه جدعان، الذي حصر عمله قاصداً ومتعمداً بمفكري الإسلام، ومستبعداً الحديث عن المسيحيين، أفكارهم وأعمالهم، أدوارهم وأنشطتهم، بالطريقة التي أرَّخ لها كلٌّ من حوراني وشرابي.
لا بل إن جدعان تعامل مع الطرف المسيحي بمنطق النقد والاتهام، وظهر ذلك في العديد من المواقف، فعند حديثه ودفاعه عن انصراف المفكرين المسلمين إلى المواقف الدفاعية والتسويغية، خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، اعتبر جدعان أنهم كانوا يتصدون لجبهات كثيرة، فهناك الليبراليون من ناحية، والتغريبيون من ناحية ثانية، إلى جانب هؤلاء، هناك العلمانيون المسيحيون خاصة11.
وعند نقده وذمه لظاهرة التغريب، أدرج جدعان في نطاق هذه الظاهرة ما أسماه بالعلمنة، التي تبلورت -حسب قوله- في الدعوة الصريحة إلى تأسيس الدستور على القانون الوضعي، وتأسيس الدولة على قواعد عصرية غربية ليس للدين الإسلامي أي دور فيها، واعتبر جدعان أن جميع المفكرين المسيحيين العرب هم من الذين روَّجوا لهذه الدعوة، إلى جانب الفرنسي هانوتو والإنجليزي كرومر12.
وما لم يصرح به جدعان في كتابه، أنه لم يكن راضياً على الطريقة التي أرَّخ بها حوراني للمسيحيين، واعتبر متحفظاً أن حوراني تعمَّد إبراز دور المسيحيين، وتسليط الضوء عليهم، والإعلاء من شأنهم، وشكلت هذه الملاحظة عنده، أحد الدوافع الأساسية لأن ينهض بعمل يركز فيه بشكل أساسي على أعمال المفكرين المسلمين حصراً وتحديداً، وبالصورة التي ظهرت في كتابه المعروف.
هذه لعلها أبرز المقاربات والموازنات المنهجية والنقدية، التي تفرق وتفارق بين الدراسات الثلاث لكل من حوراني وشرابي وجدعان13.

  • 1. هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، مصدر سابق، ص11.
  • 2. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، عمان: دار الشروق، 1988م، ص14.
  • 3. حوار مع ألبرت حوراني، ص66.
  • 4. هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، ص13.
  • 5. هشام شرابي، المصدر نفسه، 15.
  • 6. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، مصدر سابق، ص16.
  • 7. فهمي جدعان، المصدر نفسه، ص17.
  • 8. فهمي جدعان، المصدر نفسه، ص185.
  • 9. ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، مصدر سابق، ص221.
  • 10. هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، ص22.
  • 11. فهمي جدعان، أسس التقدم...، ص185.
  • 12. فهمي جدعان، المصدر نفسه، ص330.
  • 13. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الكلمة، مجلة فصلية، السنة الحادية والعشرون، العدد 84، صيف 2014م / 1435هـ