الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التطرف وتعويق حركة الاسلام

كانت إسرائيل بالمرصاد، وهي التي أربكتها انتفاضة الشعب الفلسطيني المتواصلة، وضربات حزب الله الموجعة في جنوب لبنان، التي اضطرتها للهزيمة والانسحاب، وأصبح وجودها مهددا بخطر شديد، مع تنامي الصحوة الاسلامية، وإصرار الشعب الفلسطيني على نيل كامل حقوقه، حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لتقدم لها خشبة الإنقاذ والخلاص، ولتمنحها أثمن الفرص، لتجاوز المأزق الصعب، فركبت موج محاربة الإرهاب، واستثمرت توجهات الإدارة الأمريكية اليمينية المتطرفة، واستغلت الرأي العام السياسي والشعبي الجريح في أمريكا من أحداث 11 سبتمبر، لتوظيف كل ذلك في حملة إبادة شعواء ضد الشعب الفلسطيني، حيث أعادت احتلال أغلب المناطق الفلسطينية، بشكل متكرر واغتالت العشرات من قياداته، وقامت بأبشع المجازر الدموية، التي أصبحت مسلسلا يوميا، على مرأى ومسمع من العالم كله، دون أي اعتراض فعلي، أو ممانعة حقيقية.
إن وضعا عالميا أصبح يحيط بالاسلام والأمة، لا سابق له في التاريخ، حيث تتسابق مختلف الدول في اتخاذ الاجراءات التي تجعل من كل عربي ومسلم، محلا للريبة والاتهام، حتى تثبت براءته.
وصارت الاتهامات تكال للاسلام والمسلمين عبر وسائل الاعلام، وعلى ألسنة السياسيين والمثقفين، لتنال من سمعة الاسلام ونبي الاسلام، والقرآن الكريم، وتاريخ الامة. وهي من الكثرة بحيث يصعب متابعتها وحصرها.
وقد تميز الاسلام في السنوات الماضية، بأنه أكثر الأديان انتشارا، حيث يقبل على اعتناقه أعداد كبيرة من مختلف الأمم، بما في ذلك المجتمعات الغربية، واستقطب نوعيات من المفكرين والمثقفين الغربيين الذين شدهم إليه عمق معارفه الفلسفية، وإنسانية تشريعاته.
كما أصبحت الجاليات الاسلامية في الغرب أكثر فاعلية وتفاعلا مع تلك المجتمعات، مما يهيئها لأخذ موقعية أكبر، ونفوذ أوسع، اضافة إلى تجدد حيوية الالتزام بالاسلام داخل المجتمعات الاسلامية.
لكن هذا الوضع المستجد والحملة العالمية على الاسلام والمسلمين، التي اتخذت ممارسات المتطرفين ذريعة لها، عرضت حركة تقدم الاسلام لانتكاسة مفجعة، يحتاج تجاوزها الى وقت طويل، وجهود كبيرة.

بين الرفق والعنف

نلحظ في تعاليم الاسلام الأخلاقية تركيزا هاما على صفة الرفق، وتحذيرا من الصفة المقابلة لها وهي القسوة والعنف.
وقد عرف اللغويون الرفق بأن أصل مادته يدل على موافقة ومقاربة بلا عنف. فالرفق خلاف العنف.
ورفق الرجل: لطف.
ويقول الليث: الرفق: لين الجانب، ولطافة الفعل.
قال الخليل: العنف ضد الرفق، يقال اعتنفت الشيء إذا كرهته ووجدت له عنفا عليك ومشقة.
والعنف الشدة والمشقة.
إن خطاب التطرف، وعنف التعامل، ينفر الناس من الاستجابة لدين الله تعالى، ولو كان الداعي أفضل الرسل والأنبياء محمد ، بينما اللين والرفق يجتذب القلوب والنفوس. يقول تعالى:  ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ... 1.
وحتى في مقابل أعتى الطغاة فرعون يأمر الله تعالى نبييه موسىوهارون عليهما السلام بأن يخاطباه برفق دون شدة يقول تعالى:  ﴿ اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ 2.
ومن صفات المؤمنين أنهم لا يستجيبون لاستفزازات الجاهلين فلا يواجهون خطابهم بما يشابهه بل يترفعون عن ذلك يقول تعالى:  ﴿ ... وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا 3.
وجاء مرة بعض من اليهود وأساءوا التحية لرسول الله حيث قالوا: السام عليكم أي: الموت. فغضبت أم المؤمنين عائشة وردت قائلة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم. لكن رسول الله رفض هذه الشدة في التخاطب حتى مع اليهود المسيئين وقال لعائشة: «مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش».
وجاء في صحيح مسلم عنه أنه قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».
وبهذا يكون خطاب التطرف ونهجه موصوفا بالشين والقبح من قبل رسول الله .
وفي حديث آخر يعتبر رسول الله العنف والتطرف حرمانا من الخير كما أورد الترمذي عن أبي الدرداء عنه : «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير».
وفي حديث رائع عن رسول الله : «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف».
ويقول الإمام علي : «لكل دين خلق وخلق الإيمان الرفق».
هكذا تركز التعاليم الإسلامية على أخلاقية الرفق واللين، وتحذر من أضرار التطرف والعنف، وقد يتساءل البعض عن موقعية نصوص أخرى يظهر منها الأمر بالشدة والغلظة كقوله تعالى:  ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ... 4. وقوله تعالى:  ﴿ ... قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ... 5.
لكن هذه النصوص تتحدث عن حالة المواجهة، ﴿ ... الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ... 6وفي هذه المرحلة لابد من القوة والثبات، فالشدة والقسوة حالة استثنائية تفرضها ظروف المواجهة، أما الأصل في تخاطب المسلم وتعاطيه فهوالرفق واللين، يقول تعالى:  ﴿ ... وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ... 7.
والأخلاق في رؤية الاسلام ليست قضايا مرحلية تكتيكية بل هي منهجية ثابتة في شخصية الإنسان المسلم. والتزام الأخلاق مبدأ في جميع المجالات. في التعامل مع الأسرة والمجتمع، وعلى صعيد العلاقات الدولية، وليس في مجال العلاقات الشخصية فقط.
وعلى ضوء هذه التعاليم يجب محاكمة نهج الشدة والتطرف، وخاصة حينما يقترن بشأن الدعوة إلى الله تعالى، والعمل من أجل دينه، فإن الله تعالى قد حدد أسلوب الدعوة إليه، فلا يصح اتخاذ مسلك آخر قد حذر الشرع منه يقول تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... 8. ولا يطاع الله بالمعصية.
إن الأنبياء والمرسلين أحرص منا على تبليغ رسالة الله وإقامة دينه، وهم من أرفق الناس، وأبعدهم عن الشدة والعنف، ويجب أن يكونوا قدوة لنا وأسوة. 9