الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التمييز بين الحق والحكم مصداقاً

مما دعَّم به السيد الخوئي قوله بعدم الفرق بين الحق والحكم، عدم وضوح الفرق بينهما موضوعاً، وبتعبير الحائري «عدم وجود مميز موضوعي نميّز به الحق عن الحكم بشكل يقع في طريق معرفة جواز الإسقاط أو النقل أو الإرث»1.

وللتدليل على ذلك جاء بمجموعة من الأمثلة، من بينها حق الأبوة وحق الخيار، حيث يُعتبَر الأول حكماً غير قابل للإسقاط والثاني حقاً قابلاً للإسقاط، وتساءل هل تجد بينهما فرقاً في الذات والسنخ، بالطبع لا فرق فهذا حكم وذاك حكم أيضاً، والفرق إنما هو في الآثار من حيث الإسقاط وعدمه لا في الذات2. وهو تماماً ما يقال في عدم وجود الفرق من حيث السنخ بين جواز رجوع الواهب وضعاً وجواز رجوع من له الخيار في البيع، مع أن الأول حكميّ والثاني حقيّ3.

لكن الشهيد الصدر قدَّم مقترحاً ليقول بإمكانية التفريق بين الحق والحكم موضوعاً، عرضه تلميذه السيد الحائري في فقه العقود، وهو مقترح يستند إلى الارتكاز العقلائي، وملخّصه أن الضابطة في التفريق بين الحق والحكم يمكن التفتيش عنها بأحد وجوه ثلاثة:

«الأول: أن يفتَّش عن موارد الحق وموارد الحكم، أي عن التشريعات القابلة للإسقاط والتشريعات غير القابلة له، ثم يؤخَذ جامع بين الطائفة الأولى وجامع بين الطائفة الثانية، وهذا لا يفيدنا في مقام استنباط الأحكام، وإنما هو شيء في طول الاستنباط، وإنما أثره تنظيم الاستنباط والتطبيق لكبريات المطلب بعد الفراغ عن مجموعة الاستنباطات.

الثاني: أن يفتَّش عن الموارد التي دل الدليل على قابلية الإسقاط فيها، فتستكشَف نكتة مشتركة عن تلك الموارد فيحكم بالحقيّة على كل تشريع مشتمل على تلك النكتة ولو لم يدل دليل خاص فيه على الحقيّة وقابلية الإسقاط، وهذا لو تم يفيدنا في مقام الاستنباط، إلا أن هذا الاستقراء حجيته موقوفة على إيراثه للقطع، إذن ففي غالب الظن سوف لن يفيدنا هذا الاستقراء خصوصاً إذا وجدت مادة أو مادتان للنقض وانخرام القاعدة.

الثالث: أن ننظر إلى المرتكزات والتشريعات العقلائية بقطع النظر عن الأحكام الشرعية، فقد نستكشف النكتة المشتركة عن طريق الرجوع إلى الارتكازات العقلائية، وهذا يفيدنا في مقام الاستنباط بعد إعطاء تلك طابع الشرعية بأحد وجوه ثلاثة:

الأول: إثبات إمضائها عن طريق عدم  الردع على حد إمضاء سائر السِّيَر العقلائية.

الثاني: الرجوع إلى ظاهر أدلة التشريعات بعد تحكيم تلك الارتكازات في ظهورها، فدليل الخيار مثلاً لا يبقى له ظهور في الإطلاق لما بعد الإسقاط بعد الالتفات إلى الارتكاز العقلائي القائل بقبوله للإسقاط، فإن الارتكازات العقلائية تتحكم في الظهورات كما تتحكم فيها الأوضاع اللغوية.

إلا أن هذا الوجه لا يثبت الإمضاء، إذ غاية ما يثبت به هو عدم الإطلاق لتلك الأدلة لما بعد الإسقاط. وأما السقوط بالإسقاط فلا يثبت بها، بل يبقى مشكوكاً يجب الرجوع فيه إلى القواعد.

الثالث: الرجوع إلى الأخبار الظاهرة في الإمضاء كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال «قلت له: رجل جنى إليَّ أعفو عنه أو أرفعه إلى السلطان؟ قال: هو حقك، إن عفوت عنه فحسَن، وإن رفعته إلى الأمام فإنما طلبت حقك، وكيف لك بالإمام»4. فهذا ظاهر في ذكر الصغرى والإحالة في الكبرى على الارتكاز العقلائي، فيدل على إمضائه بحدوده العقلائية.

ثم إن هذا الطريق -أعني التمسك بالسيرة العقلائية مع إثبات الإمضاء بعدم الردع أو بالرجوع إلى الأخبار الظاهرة في الإمضاء- لا يضرّه وجود بعض المواد للنقض وانخرام القاعدة، فتلك الموارد تعتبر ردعاً عن السيرة، وهذا لا ينافي الإمضاء في الموارد الأخرى بالسكوت أو بتلك الأخبار»5.

وفي حين ركز الشهيد الصدر على الارتكاز العقلائي بإزاء الدليل، ركز المحقق اليزدي على الإجماع بالإضافة إلى الدليل، وهذا نص عبارته «والميزان في ذلك أما الإجماع أو لسان الدليل، كأن يطلق عليه لفظ الحق، أو لفظ الحكم، أو ملاحظة الآثار واللوازم، مثلاً إذا ثبت جواز اسقاطه أو نقله يعلم أنه من باب الحق، ولكن لا عكس، إذ يمكن أن يكون حقاً لازماً أو مختصاً، ومع عدم إمكان التشخيص بهذه الموازين فالمرجع الأصل. وهو مختلف بحسب الآثار، فلو شك في جواز الإسقاط أو النقل فالأصل عدمهما، ولو كان للحكم أثر وجودي فالأصل عدمه أيضاً.

ثم إن عدم كون الحكم مما يقبل الإسقاط والنقل من القضايا التي قياساتها معها، لأن أمر الحكم بيد الحاكم، وليس للمحكوم عليه اسقاطه ولا نقله، لأن المفروض أنه لم يجعل له السلطنة على شيء حتى يكون أمره بيده.

نعم، لو كان معلَّقاً على موضوع وكان داخلاً في ذلك الموضوع فله الخروج عنه ليرتفع ذلك الحكم، لكنه ليس من باب الإسقاط، بل من باب تبديل الموضوع»6.

  • 1. فقه العقود، مصدر سابق، ج1ص133.
  • 2. مصباح الفقاهة، مصدر سابق، ج2 ص340.
  • 3. محاضرات في أصول الفقه، السيد أبو القاسم الخوئي، ج2 ص21، نقلاً عن فقه العقود، مصدر سابق، ج1 ص137.
  • 4. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج7 ص252، دار الكتب الإسلامية- طهران، الطبعة الثالثة 1367هـ.ش.
  • 5. فقه العقود، مصدر سابق، ج1 ص134.
  • 6. حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص281.