الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الوحدة الإسلاميّة سياسيّة أو دينيّة؟

مدخل التقريب، سياسيٌّ أو ديني؟

ربما يكون العنوان الذي تمّ اختياره هنا «الوحدة الإسلاميّة سياسيّة أو دينيّة» موهماً للوهلة الأولى؛ إذ يبدو وكأنّه يضعنا أمام خيارين، وأنّ علينا أن نختار واحداً منهما، في عمليّة تأطير فكري: إمّا أن نقول بأنّ التقريب أو الوحدة أو التعايش بين أبناء المذاهب 1 يجب أن يكون سياسيّاً فقط أو يجب أن يكون دينيّاً فقط، لكن ليس هذا هو المقصود بالعنوان، بل يمكن أن تكون الوحدة سياسيّةً وفي الوقت نفسه دينيّة.

إنّما الفكرة الأساسيّة المطروحة هي: هل نتّجه إلى التقريب بين أبناء المذاهب نتيجة عنصر سياسي فقط، أو ثمّة رؤية وقراءة دينيّة خلف مشروع التقريب بين المذاهب، بصرف النظر عن وجود العناصر السياسيّة الضاغطة التي تدعو للتقريب بين المذاهب أو عدم وجودها؟

لماذا نهتمّ بهذا السؤال في لحظتنا الراهنة؟

يهمّني جداً أن نجيب عن هذا السؤال؛ لأنّ هناك توجّهاً يسري في بعض الأوساط، يقول: لا يمكن تحقيق تقاربٍ بين المسلمين من منطلقٍ ديني، ومن ثمّ لكي نحقّق تقارباً بين المسلمين، يجب أن ننطلق من منطلق خارج ـ ديني. واُسمّي هذا التوجه بـ«عَلمَنَة التقريب»، أي لكي يتقارب المسلمون يجب أن يخرجوا من فكرة أنّ علاقاتهم ببعضهم قائمة على الإسلام، بل لابدّ أن تقوم على معايير أخرى، مثل المواطنة بالمفهوم الوضعي الحديث والإنسان والعلاقة مع الآخر البشري..، ومعنى ذلك أنّه يجب حذف المفهوم الإسلامي أو الخلفيّة الدينيّة التي يتحدّث عن أنّها يمكن أن تقف خلف التقريب. وهذا بالضبط ما حصل في أوروبا المسيحيّة، إذ بعد تصارع دام سنواتٍ وسنوات بين المذاهب المسيحيّة، توصّلوا إلى هذه النتيجة: لا يمكن أن نعيش بسلامٍ إلا أن نُبعد الدين عن الحياة العامّة.

هنا يكمن مركز الخطورة في هذا الموضوع، ونصبح مضطرّين اليوم أن نبحث في أنّه هل يمكن العثور على خلفيّة دينيّة حقيقيّة فاعلة للتقارب بين المسلمين، أو يجب أن نبحث عن ذلك خارج إطار الرؤيّة الدينيّة، فنُعَلْمِن التقريب، ونقارب بين المسلمين بعد التحرّر من المفاهيم الدينيّة تماماً؛ لأنّ الدين غير قادر على أن يحقّق التعايش السليم والطبيعي بين الناس؟

أرجو أن ننتبه إلى خطورة الموقف؛ لأنّ مآلات التصارع المذهبي بين المسلمين اليوم، تصبّ في مصلحة من يذهب إلى القول بأنّ حلّ مشاكلنا لا يكون إلا بالتخلّي عن المدخل الديني، فإذاً نحن مضطرّون أن نبحث في جواب هذا السؤال: هل يوجد في الدين إمكانيّة لكي نؤكّد وجود التفاهم بين أبنائه أو أنّ البحث عن وجود خلفيّة دينيّة للتفاهم بين المسلمين بحثٌ في سراب، ومن ثمّ لن تُحلّ هذه المشكلة إلا بترك المفاهيم الدينيّة؟

هنا تكمن أهميّة هذا السؤال في هذه اللحظة بالذات التي يتّجه فيها العالم العربي والإسلامي إلى نوعٍ من العلمانيّة التي تستند إلى فشل التجربة الإسلاميّة هنا أو هناك، وعلينا أن نأخذ الأمر على محمل الجدّ، لكي نفكّر فيه بجدّية وتأمّل.

لكن، ما الفرق بين أن نجعل المدخل للتقريب بين المذاهب هو المدخل السياسي أو المدخل الديني؟ ثمّة فرق جوهري كبير.

إذا جعلنا المدخل للتقريب بين المذاهب هو المدخل السياسي، فنحن أمام حقيقتين:

الحقيقة الأولى

إنّنا أوكلنا التقارب بين أبناء المسلمين إلى أمر متغيّر؛ إذ السياسة دائماً فعل الأمر المتغيّر، وبالتالي أيّ تحوّل في المشهد السياسي يمكن أن يطيح بتقارب المسلمين مع بعضهم، وسيكون ما يسمّى بالعلاقات الإيجابيّة بين المسلمين مجرّدَ لحظة زمنيّة سياسيّة.

الحقيقة الثانية

إنّ قرار تقارب المسلمين مع بعضهم لن يكون قراراً دينياً، ولن ينشأ من تديّن الناس، بل سينشأ من مرجعيّة سياسيّة فقط، ومن ثمّ فالمتحكّم في مصير علاقات المذاهب الدينيّة مع بعضها، ليس أهل الدين، وإنّما السلطات السياسيّة أو السياسيّون.

إذن، نحن أمام حقيقتين موضوعيّتين، تنجمان عن اعتبار مشروع التقريب سياسيّاً فقط.

لا شك أنّ للسياسة دوراً في التقريب، لكن أن يكون التقريب سياسيّاً فقط ينتج عنه ربط مسألة التقريب بأمر متغيّر، والتابعُ للمتغيّر متغيّرٌ، كما أنّه يجعل علاقة المذاهب مع بعضها بيد السلطات السياسيّة، وليس بيد أبناء هذه المذاهب أو الاتجاهات الدينيّة داخل هذه المذاهب.

إذا أردنا أن نحلّل القضيّة بالمصطلح الفقهي، فإنّ الفرق بين أن نقول: إنّ المدخل إلى التقريب هو مدخلٌ ديني أو مدخل سياسي، هو:

إذا قلنا هو مدخلٌ ديني، فهذا يعني أنّنا اعتبرنا العلاقات الإيجابيّة بين أبناء المذاهب جزءاً من الأحكام الشرعيّة الأساسيّة في الدين بالعنوان الأوّلي، وجزءاً من البرنامج الثابت في أصل الشرع أن تكون علاقات المسلمين في ما بينهم علاقات ممتازة، حتى لو اختلفوا في قراءتهم للتاريخ أو العقيدة أو الشريعة أو غير ذلك، فالتقريب من الثوابت في الشريعة الإسلاميّة فلا نخرج عنه إلا لضرورة.

بينما إذا جعلنا مدخل التقريب سياسيّاً، فهذا معناه أنّ التقريب بين المذاهب ليس جزءاً من الشريعة بالعنوان الأوّلي، ولا يوجد شيء اسمه التقارب بين أبناء المسلمين في نصوص الكتاب والسنّة، وإنّما الضرورة هي التي فرضت علينا أن نتقارب ونلتقي، ولولا فعلُ الضرورة ما التقينا؛ إذ لا يوجد شيءٌ في أعماقنا دينياً يدفعنا للتقارب والتلاقي والتعايش في ما بيننا تعايشاً سلميّاً واندماجياً وصحيحاً.

إذن، هناك فرق جوهري بين أن نرى العلاقات الإيجابيّة بين المسلمين قائمةً على العنوان الأوّلي لا يُخرج عنها إلا بدليل، وبين أن نرى هذه العلاقات قائمةً على العنوان الثانوي، فلولا هذا العنوان الثانوي والضرورات، لكان مقتضى الأصل الانفصالَ والتباعد فيما بيننا، ولو لم يكن الصراع والحرب 2.

 

للمزيد راجع:

 

  • 1. إنّما أستخدم هذه التعابير؛ لأنّني في ضيق من اللغة، فكلّ تعبير له معنى سلبي وإيجابي، ولا نحتاج أن نكرّر أنّ الوحدة الإسلاميّة أو التقريب بين المذاهب، لا تعني بحالٍ من الأحوال تخلّي أيّ فريق عن مذهبه وعقيدته، وإنّما هي نوع من المعايشة والتفاهم والإنصاف، وإعطاء الحقوق المتبادلة بشكل طبيعي، والاندماج الحقيقي في الكلّ الكبير الواحد والاُسرة الجامعة التي هي الأسرة المسلمة.
  • 2. المصدر: الموقع الرسمي للأستاذ حيدر حب الله حفظه الله.