الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التقدير ازلا ام في ليلة القدر ؟

نص الشبهة: 

قد يَزعم البعض أنّ في ذلك تناقضاً في القرآن ، فتارةً يُرى من تقدير الأُمور مُثبتاً في اللوح المحفوظ { ... فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ... } ، وأُخرى تقديرها في ليلة القَدر لكلّ عام { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } (راجع : هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام ، ص384 ـ 385 .) .

الجواب: 

قلت : ليس التقدير ممّا يختلف وإنّما يختلف العلم به ، فالّذي يعلم تقدير الأمور ومجاريها أَزلاً وفي اللوح المحفوظ هو اللّه وحده لا شريك له ، وأمّا الذي يتنزّل به ويُطلع أولياءه عليه فهو في ليلةٍ مباركةٍ هي ليلة القدر من شهر رمضان من كلّ عام . يتنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر ، يتنزّلون بتقادير الأمور على الحجّة القائم مِن أوليائه ؛ ليُطلعه على مجاري الأُمور عامّة ذلك ، وبذلك تواترت روايات أئمة أهل البيت الصادقين ( عليهم السلام ) ومِن ثمَّ فإنّ عِلمَهم الحتم بمجاري الأُمور محدود بعامِهم ، دون علم اللّه المحيط الشامل 1 .
والدليل على ذلك أنّ الوارد في سورَتي الدخان والقَدْر هو النزول والتفريق ، وليس أصل التقدير ، فتدبّر جيّداً .
فاللّه تبارك وتعالى يعلم تقدير الأُمور حسب مجاريها عِلماً في الأَزل ، لكنّه تعالى يُنزل بهذا التقدير في كلّ ليلة قدر بشأن تفريقه طول ذلك العام ، الأمر الذي لا يبدو عليه أيّ شبهة تناقض .
متى وقع التقدير ؟ وهل لا يتنافى التقدير مع الاختيار ؟
جاء في سورة الدخان أنّ التقدير إنّما يقع في كلّ ليلة قَدْرٍ مِن شهر رمضان في كلّ سنة ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ 2 . وقد وردت روايات أيضاً بأنّ ما يقع في تلك السنّة إنّما يُقدَّر في ليلة القدر .
هذا ، في حين كَثرة الآيات والروايات بأنّ التقدير إنّما وقع في الأَزل ، وتجري الأمور حسبما قُدّرت في اللّوح المحفوظ من غير تخلّف ولا تبديل ، ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ... ﴾ 3 ، ﴿ ... وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ... ﴾ 4 .
على أنّ هذه الآيات تَرمي إلى سلب مسؤوليّة الإنسان عمّا يفعله ؛ حيث إنّه كان مُقدّراً من قبل ، وهذا يتنافى وقوله تعالى : ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ﴾ 5 .
أمّا المسألة الأُولى : فقد سَبَق البحث عنها في مسألة البداء وأنّ هناك تقديرَين ، تقديرٌ ظاهري حسب مجاري الأمور الطبيعيّة من عللٍ وأسبابٍ تتفاعل حسب طبيعتها الأُولى ، وهي السُنَن الساطية على الكون ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 6 .
وهذه السُنَن ليست حتميّة ، في حين كونها هي الغالبة ، حيث احتمال مفاجئة أُمور طارِئة من خارج مَدارات السُنَن فتُغيّر من اتجاهاتها أحياناً ، الأمر الذي لا يَعلمه إلاّ اللّه وكان مُقدّراً أي معلوماً لديه تعالى في الأَزل ، خافياً عن أعين الخلائق إلاّ مَن علّمه اللّه ، وهذا هو التقدير المكنون في اللوح المحفوظ ، ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ... ﴾ 7 .
فالأَجل الأَوّل هو الذي تقتضيه مجاري الأمور الطبيعيّة حسب السُنَن الجارية في الخَلق ، وهذا ليس بحتم ، أمّا الأَجل الآخر الحتمي فهو الذي عَلِمَه اللّه في الأَزل حسب الأسباب الطارئة الخافية عن غيره تعالى ، ﴿ ... لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ 8 ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ 9 .
روى الصدوق بإسناده إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( وهل يَمحو اللّه إلاّ ما كان ؟ وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن ؟ ) 10 .
فهناك تغيير وتبديل على خلاف مجاري الأُمور ، لا يَعلمه إلاّ اللّه عِلماً كائناً في الأَزل .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( من الأُمور أُمور موقوفة عند اللّه ، يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر منها ما يشاء ويُثبت منها ما يشاء ) 11 ، أي : من الأمور ما هي موقوفة ـ في جريانها حسب العادة الطبيعيّة ـ على شرائط ، إنْ وُجدت جرت ، وإلاّ تخلّفت ، فحصول هذه الشرائط في وقتها أو عدم حصولها شيء لا يعلمه إلاّ اللّه .
فالعلم بالتقادير الحتميّة الأَزليّة خاصّ اللّه تعالى ، أمّا غيره تعالى من الملائكة المقرّبين والمدبِّرات أمراً وكذا المُصطَفون من عباد اللّه المُكرمينَ فلا عِلم لهم بسِوى مُقتضيات السُنَن الطبيعيّة في مجاري الأمور ، والتي هي بمَعرض البَداء والتبديل ، أمّا حتميّتها فهذا شيءٌ إنّما يعرفونه في كلّ ليلة قدرٍ من كلّ سنةٍ وفي محدودة عامِها فحسب .
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ للّه عِلمَينِ ، عِلمٌ مكنونٌ مخزونٌ لا يَعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعِلم علّمه ملائكتَه ورسلَه وأنبياءَه ، فنحن نعلمه ) 12 ، وقد عنى بهذا العلم الذي تَعلمه الملائكة والأنبياء والأئمّة هو العِلم وِفق مجاري الأمور الطبيعيّة ، والتي يُمكن التخلّف فيها ؛ ومِن ثَمَّ قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( واللّه لولا آية في كتاب اللّه لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : ﴿ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ 9 ) 13 .
* * *
وأمّا المسألة الثانية : هل لا يتنافى التقدير مع الاختيار ؟ فقد استوفينا الكلام عنها عند البحث عن مسألة الاستطاعة والاختيار ، وتَبيّن أنّ التقدير السابق لا يَعدو سوى العِلم بما سيقع وتقديره حسبما يقع ، من غير أن يكون العِلم السابق ذا أثرٍ في تحقّق المعلوم ، فإنّ للظواهر الكونيّة عِللاً وأسباباً تكوينيّةً هي التي تُؤثّر في الفعل والانفعال التكوينيّينِ ، كما أنّ للأفعال الاختياريّة الصادرة من الفاعل المختار ( الحيوان والإنسان ) سبباً مباشراً هي إرادته بالذات وليس مقهوراً فيها .
فإذا كان اللّه يعلم ـ أَزلاً ـ ماذا سيقع وسيتحقّق عِبر الأبد ثُمّ قدّر مجاريها ودبّر من شؤونها بما يتوائم ونظام الكون فهذا لا يعني الإجبار ، ولا سيّما فيما يَعود إلى أعمالٍ يقوم بها الإنسان حسب إرادته واختياره ، وليس مِن المنطق أن يُفرض العلم بأمرٍ علّةً لوجوده .
والتقدير السابق ، إنّما هو العِلم بالأسباب والمسبّبات ـ كما هي ـ ثمّ تدبير مجاريها حسب نظام الكون ، فلا هناك جَبر ولا سلب للمسؤوليّة فيما يَمسّ أفعال العباد الاختياريّة 14 .